تصاعد الأحداث فى الأزمة الأوكرانية يشير إلى أن روسيا تستعد لخوض حربها الثانية فى شبه جزيرة القرم، وذلك بعد حربها السابقة هناك فى القرن التاسع عشر التى خاضتها ضد الإمبراطورية العثمانية فى أكتوبر عام 1853، واستمرت حتى عام 1856، ودخلت وبريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية للقضاء على القوة البحرية الروسية فى البحر الأسود، حيث كانت ترقد هناك القاعدة البحرية لروسيا فى شبه جزيرة القرم واستمرت المعركة قرابة العام، وانتهت بهزيمة روسيا وسيطرة المحتلين على شبه جزيرة القرم التى استعادتها روسيا القيصرية بعد ذلك، وعاد الأسطول الروسى إلى قاعدته فى ميناء سيفاستوبل، ثم جاء الاتحاد السوفيتى لتصبح هذه القاعدة أهم قاعدة عسكرية بحرية للجيش السوفيتى لوجودها فى المياه الدافئة فى البحر الأسود واقترابها من منافذ البحار والمحيطات العالمية.
وها هو التاريخ يعيد نفسه فى شبه جزيرة القرم التى تشكل أهمية إستراتيجية كبرى لروسيا السوفيتية والحالية، وكان الزعيم السوفيتى الأسبق نيكيتا خروتشوف فى عام 1954 قد انتزع القرم من روسيا وضمها إداريًا إلى جمهورية أوكرانيا السوفيتية لاقترابها منها، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى أرادت روسيا استرجاع القرم وحدث خلافات مع أوكرانيا انتهت بحسم الأمر ببقاء شبه جزيرة القرم ضمن أوكرانيا مع منحها نظام حكم ذاتي، وبقى الأسطول الروسى فى قاعدته فى سيفاستوبل، يتحرك منها عبر البحار والمحيطات العالمية ليصل إلى بحر الكاريبى جنوب الولايات المتحدة وليضع سفنه وبارجاته العملاقة بشكل دائم فى شرق البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذى سبب قلقًا وتوترًا كبيرًا لدى الغرب وواشنطن وحلف الناتو، وربما من هذا المنطلق يمكن فهم أسباب ودوافع تكالب الأوروبيين والأميركيين على أوكرانيا، ذلك أن نفوذ روسيا البحرى العسكرى بات يسبب خللاً واضحًا فى موازين القوى العالمية، وبما أن قاعدة سيفاستوبل فى شبه جزيرة القرم فى أوكرانيا هى المصدر والمنطلق الأساسى لهذا الأسطول، فإن الأمر يستوجب إيقاف وسد هذه القاعدة، وذلك بفصل روسيا عن أوكرانيا وطرد الأسطول الروسى منها.
شبه جزيرة القرم التى يحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، تبلغ مساحتها 27000 كم، وسكانها 2.5 مليون نسمة، ويشكل الروس حوالى 60% منهم، والأوكران 30%، والباقى من التتار المسلمين، إلا أن اللغة الروسية هى السائدة فيها رسميًا وشعبيًا، وسكانها يشعرون بالولاء لموسكو أكثر من ولائهم للعاصمة الأوكرانية كييف، ولهذا كان رد فعل سكان القرم قويًا وسريعًا على الانقلاب السياسى الذى وقع فى كييف وأطاح بالرئيس فيكتور يانكوفيتش الذى فر إلى روسيا، ويرفض سكان القرم الاعتراف بالنظام الجديد الذى حل محل يانكوفيتش فى كييف، ويعتبرونه غير شرعي، وقرر البرلمان المحلى فى القرم أن هذا النظام الانقلابى فى كييف ليس له أى سلطة على القرم وسكانه، ودعا البرلمان سكان القرم إلى استفتاء شعبى فى 30 مارس الجارى لإعلان استقلال القرم عن أوكرانيا، ولم يقتصر الأمر على التصريحات الرسمية والسياسية، بل اجتاحت المظاهرات مدن القرم رافضة النظام الانقلابى المدعوم من الغرب وواشنطن، وزاد من غضب المتظاهرين إعلان البرلمان فى كييف عن مشروع قانون لإلغاء استخدام اللغة الروسية فى أوكرانيا كلها، بما فيها القرم الذى يتحدث سكانه فقط الروسية، وقام المتظاهرون فى القرم بنزع العلم الأوكرانى ورفع العلم الروسى بجوار علم القرم على البرلمان ومبنى الحكومة، وأصدر برلمان القرم قرارًا آخر بشأن تعيين سيرجى أكسيونوف، رئيس حزب "الوحدة الروسية"، رئيسًا جديدًا لمجلس وزراء القرم، وقال أكسيونوف للصحفيين: "نحن لا نعترف بالحكومة الانقلابية فى كييف ونعتبر فيكتور يانكوفيتش رئيسًا شرعيًا لأوكرانيا وسننفذ تعليماته"، ووجه أكسيونوف نداءً إلى الرئيس بوتين يطلب مساعدة روسيا.
تصاعدت الأحداث بعد تقدم الرئيس بوتين أمس السبت لمجلس الاتحاد البرلمانى الأعلى فى روسيا بطلب الموافقة على استخدام القوة العسكرية الروسية فى أوكرانيا فى شبه جزيرة القرم، وذلك بموجب المادة 102 من الدستور الروسي، ووافق المجلس بالإجماع، وصرح الرئيس الأوكرانى المعزول فيكتور يانكوفيتش، واللاجئ لروسيا الآن، بأنه يوافق على تدخل روسيا عسكريا فى شبه جزيرة القرم لحفظ الأمن.
الرئيس بوتين برر طلبه بنشوء الظروف الطارئة فى أوكرانيا والتهديد لحياة مواطنى روسيا الاتحادية وأفراد مجموعة القوات المسلحة الروسية المتواجدة فى جمهورية القرم الذاتية الحكم، ولم تستبعد فالنتينا ماتفيينكو، رئيسة مجلس الاتحاد للبرلمان الروسي، إمكانية إدخال قوة محدودة من القوات المسلحة الروسية إلى شبه جزيرة القرم لتوفير الحماية لأسطول البحر الأسود والمواطنين الروس المتواجدين فى شبه الجزيرة، ومن جانبها طلبت ماتفيينكو من الرئيس بوتين استدعاء السفير الروسى من واشنطن.
وفى واشنطن أبدى الرئيس الأمريكى باراك أوباما قلقه إزاء ما تحدثت عنه التقارير من تحرك عسكرى روسى داخل أوكرانيا وحذر من عواقب ذلك. وأضاف أوباما قائلاً: "أى خرق لسيادة ووحدة أراضى أوكرانيا سيكون مزعزعًا للاستقرار بشكل كبير، وستقف الولايات المتحدة مع المجتمع الدولى فى تأكيد أنه ستكون هناك تكلفة لأى تدخل عسكرى فى أوكرانيا." هذا وأكد الناطق باسم البيت الأبيض جاى كارنى أن واشنطن تتابع عن كثب تطور الوضع فى أوكرانيا وتعول على استيضاح المعلومات حول ما إذا كانت روسيا "تجاوزت الخط الأحمر" هناك.
من جانبها تقدمت السلطات الجديدة فى أوكرانيا من كييف بطلب عاجل لمجلس الأمن الدولى لعقد جلسة خاصة لبحث الأوضاع فى شبه جزيرة القرم، وانعقدت الجلسة أمس السبت لكنها لم تسفر عن قرارات محددة.
الوضع فى شبه جزيرة القرم ينذر بالخطر، وقد حذرت السلطات الجديدة فى كييف جنود الأسطول الحربى الروسى من الخروج من قاعدتهم العسكرية فى سيفاستوبل حاملين أسلحتهم، وتحدثت أنباء وصلت من شبه جزيرة القرم عن أن جنودًا ينتسبون إلى قاعدة القوات البحرية الروسية فى سيفاستوبل فرضوا سيطرتهم على مطار المدينة ومطار مدينة سيمفيروبل، لكن قيادة الأسطول الروسى هناك أكدت أن الجنود الروس قاموا بعمليات تفتيشية فى المطارين ثم انسحبوا عائدين لقاعدتهم.
من المؤكد أن روسيا لن تتنازل أبدًا عن قاعدة أسطولها فى القرم، حتى لو استدعى الأمر السيطرة عليها بالقوة، وربما تكون المناورات التى أمر الرئيس بوتين الجيش الروسى بإجرائها فى غرب روسيا الأسبوع الماضي،هى رسالة للأوروبيين والأميركيين بأن روسيا لن تتردد فى استخدام القوة من أجل حماية مصالحها وأمنها القومي، الأمر الذى تعاملت معه الدوائر الغربية على أنه إعلان حالة حرب، ستكون القرم ساحتها الرئيسية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة