أفخر دومًا أننى من تلاميذ الأستاذ الدكتور العلامة أحمد كمال أبوالمجد، فقد تعلمت منه الكثير قبل أن ألقاه وبعد أن شرفت بلقائه.. وأسعد دومًا حينما كنت أستمع إلى الرجل وأنصت إلى سلاسل الذهب والفضة والعلم والحكمة وقوة الحجة والبيان التى تتدفق مع كلماته دون تكلف أو عناء ودون أن ينظر فى ورقة أمامه.
وأفخر دومًا بأنه دائمًا ما يختار لنفسه دور «سيارة الإطفاء» التى تسعى لإطفاء الحرائق السياسية فى مصر وما أكثرها فى بلاد أصبحت نموذجًا للصراع السياسى.. وقد عبر الرجل عن وظيفته فى الحياة بهذا التعبير البالغ الدقة.
إننى أعتبر د/ أبوالمجد من أفضل من يحمل رسالة الإسلام الوسطية.. ومن أفضل من يستطيع الجمع بين ثوابت الإسلام ومتغيراته.. وبين عطاء الحضارة الإسلامية العربية وبين الحضارة الغربية.. وبين الواجب الشرعى والواقع العملى جمعا صحيحًا.
وحينما حاول أستاذى د/ أبوالمجد أن يكون وسيطًا محايدًا للمصالحة الوطنية بعد عزل د/ مرسى من الرئاسة واقتحام اعتصامى رابعة والنهضة والذى خلف دماء كثيرة وثأرات أكثر، ومع بروز موجات التفجيرات والاغتيالات كنت أول المساندين والمؤازرين له.
لقد أحب د/ كمال أبوالمجد أن يحقن الدماء وأن يقرب الفصائل المتنازعة من بعضها أو يدفعها دفعًا إلى الصلح بطريقة واقعية وعملية وغير عاطفية ساذجة أو متشنجة فاشلة.
ولكن الرجل قوبل بعاصفة من السباب والشتائم من كلا الطرفين.. فلم يسلم من أنصار الإخوان لأنه تجرأ وقال: «إن عودة د/ مرسى غير ممكنة عمليا وشبه مستحيلة».. ولم يسلم من أنصار السيسى والقوى المدنية لأنه قال: «إن إقصاء الإخوان والتيار الإسلامى من الحياة السياسية ضرب من الخيال والجنون».. حزنت للسهام الذى توجهت لصدر الرجل وقد جاوز الثمانين من عمره، خاصة أن بعض الصحف نسبت إليه أنه يريد اغتيال فلان.. ناسية أن الرجل يلهث من المشى.. «وناسية.. وناسية.. وناسية».
تصفحت اليوم مرة أخرى بعض كلمات وفكر د/ أحمد كمال أبو المجد، فقلت لعل كل الذين شتموه وأهانوه من الطرفين لم يقرأوا حقيقة الفكر الإسلامى الحضارى الناصع الرائع لهذا العبقرى الذى جمع فى عقله وفؤاده علوم الدين والدنيا كلها وصاغها فى قالب رائع.
قلت فى نفسي: وماذا علىّ أن أطلع هذه الأجيال على بعض أفكار الرجل حتى يشاركونى الإعجاب بفكره.. وهاأنذا أفعل اليوم.
وهذه بعض كلمات ودرر المفكر الإسلامى الكبير د/ أحمد كمال أبو المجد:
1 - بمراجعة الخطاب الدينى المنتشر هذه الأيام.. والذى يصنع صورة المتدين المعاصر.. يتضح أن هناك مظاهر سبعة لانحراف هذا الخطاب عن توجهات الإطار المرجعى الثابت للدين الإسلامى.
2 - إن الترغيب والتبشير يظلان معًا المدخل الأساسى لجذب النفوس إلى الحق.. وهما يفعلان فعل السحر عند أكثر الناس.
3 - المتشددون فى كل زمان يصدرون فى تشددهم عن تصور خاطئ لمهمتهم وحدودها.. فهم يتصورن أنفسهم وصاة على الدين وعلى الناس.. وهم لذلك فى خوف دائم مقيم من أن التيسير على عباد الله قد يؤدى بهم إلى الخروج على حدود الله وتكاليف الشريعة.
4 - ينسى أكثر الدعاة أنهم مبلغون وليسوا أوصياء على أحد من الناس.. إذ تظل الطاعة والمعصية أمورًا منوطة باختيار الأفراد والمكلفين.. يسألون عنها بين يدى خالقهم الذى علمهم أنه «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ»
5 - يتصور المتشددون أن تشددهم من شأنه أن يقفل أبواب الشر والعوج.. وأن يسد الذرائع فى وجه الانفلات من تكاليف الشريعة.. وينسون أن سد الذرائع طريق احتياطى من طرق التشريع والإفتاء.. وأنه كما يسد مداخل الشر.. فإنه يفتح أبواب الخير.. كما ينسون أن المرجع فى حل الأفعال والتصرفات وتحريمها إنما هو الخالق سبحانه.. وأن الوصول فى التشديد إلى الاقتراب من تحريم الحلال لا يقل إثماًً عن الوصول إلى تحليل الحرام.. يشهد لذلك ويقرره قوله سبحانه «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ»
6 - التشديد فى حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل.. إذ الأمر كما قال الفقيه الكبير/ سفيان الثورى عليه رحمة الله «ليس العلم فى التشديد فإنه يحسنه كل أحد.. إنما العلم الرخصة من ثقة».. والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، كما يقول النبى.
7 - يحتاج الدعاة والخطباء والمتحدثون والمفتون إلى أن يعرفوا معرفة لا شك فيها.. ولا مكابرة معها أو جدال.. أن شريعة الإسلام قد بنيت على التيسير ورفع المشقة ورفع الحرج ولم تبن أبدًا على التعسير والمشقة والحرج.
8 - فى بعض نماذج الخطاب الإسلامى المعاصر دعوة غريبة إلى مخاصمة الحياة والتحريض على الزهد فيها.. والإعراض عنها.. ووصف هذه الدنيا بأنها جيفة وطلابها كلاب.. ومن شأن هذه الدعوة أن تصرف جمهور المسلمين عن الإقبال على الحياة والسعى لتعمير الأرض.. ومنافسة أهلها على مواقع الريادة والقيادة.. وهى دعوة تناقض نداء الإسلام الصريح للعمل النافع والضرب فى الأرض ابتغاء الرزق وتحقيق التوازن الذى تشير إليه الآية الكريمة فى قوله سبحانه «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا»
9 - الزهد المحمود فى الدنيا هو الزهد مع القدرة وليس الزهد مع العجز.. والمؤمن الحق هو الذى يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا.. ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً.. والتوجه الإسلامى الصحيح هو توجه يملؤه الأمل والتفاؤل والتطلع إلى المستقبل والإعداد له.
10 - الإسلام بهذا كله لا يضع أصحابه فى صراع مع الحياة.. والمسلم الحق لا يكره الناس والدنيا.. ولا يقضى عمره فى معركة صنعها الوهم مع قواها ونواميسها.. وأنى له ذلك وهى صنع الله الذى أحسن كل شىء خلقه ثم هدى.
وفى الأسبوع القادم بإذن الله لنا قراءة جديدة مع فكر العلامة د/ أحمد كمال أبوالمجد.. فإلى لقاء بإذن الله.