فى أحد الأيام من عام 1935 خرج الصبى منهكًا من المصنع الذى يعمل به بالمحلة الكبرى، سار متلفعًا بالهمّ والفقر، ينطوى باطنه على حزن كبير بعد أن فقد والده قبل سنوات قليلة.
تذكر الأيام الخوالى حين كان ينعم بالذهاب إلى المدرسة يتلقى العلم ويبتهج بالتفوق، ثم يأسى على حاله بعد أن خطف غراب الموت روح أبيه، إذ أجبرته المقادير على أن يترك المدرسة هو وشقيقه الأكبر، لينخرطا فى خضم العمل بالمصانع وعمره لا يتجاوز الثانية عشرة سنة، وأخوه لم يبلغ الرابعة عشرة بعد!
هام الصبى على وجهه فى شوارع المدينة الصناعية الوليدة، يستقبل نسائم طرية تهب من الحقول القريبة، بينما الشمس على وشك تقديم استقالتها من السماء هذا النهار، وفجأة تناهى إلى أذنيه موسيقى شجية وصوت يطرب له كثيراً، إنه صوت عبدالوهاب ينبعث من جرامافون المقهى القريب، هُرع الصبى نحو المقهى، وبحركة لا إرادية دس يده فى جيب بنطاله عسى أن يعثر على نكلة تائهة أو مليم شارد، فلما لم يجد كما توقع، انتبذ من المقهى مكانا قصياً، وجلس على الرصيف حتى يستطيع أن ينصت إلى مطربه المحبوب وهو يشدو بقصيدة (أعجبت بى بين نادى قومها/ ذات حسن فمضت تسأل بى/ سرّها ما علمت من خلقى/ فأرادت علمها ما حسبى) للشاعر مهيار الديلمى (شاعر فارسى أسلم وعاش فى بغداد ومات عام 1037 م).
اقترب من الصبى جرسون المقهى ذو القسمات الخشنة عاقد الجبين ونهره آمرًا إياه أن يبتعد عن الرصيف حتى لا يزعج الزبائن، لم يتحرك المفتون بـ(بلبل حيران وفى الليل لما خلى) قيد أنملة، لكنه رجا الجرسون أن يسمح له بالجلوس حتى ينتهى عبدالوهاب من الغناء، هنا بالضبط، لانت ملامح الجرسون.. وارتسمت على محياه علامة رضا، فانحنى قليلا وجذب الصبى برفق من ياقة قميصه القديم، وسأله وهو يدرى الإجابة مسبقاً: (هل تحب عبدالوهاب؟).
لم ينتظر الجرسون الرد إذ دعا الصبى للجلوس داخل المقهى، وأكرمه بأن أحضر له كوبًا من الشاى، فلما أبدى الصبى حركة بيديه توضح أنه لا يملك أى مال، ربت الجرسون كتفه، وقال برقة تخاصم ملامحه الجهمة: (لا يهم، فيكفى أنك تحب عبدالوهاب).
استمتع الصبى بالأغنية وتلذذ بالشاى، وظل يردد فى خاطره أبيات الشعر فى القصيدة التى كتبها مهيار، فلما جاء إلى القاهرة عام 1940 واستقر وتزوج وأنجب، علّم أبناءه السبعة عشق الفن والأدب، وتبجيل العلم والعلماء، ورعاهم حتى نالوا أرفع الشهادات الدراسية ووصلوا إلى مناصب مرموقة فى الدولة، لكنه لم ينس أبدًا كرم الجرسون (المحلاوى) وعشقه لعبدالوهاب.
هذه واقعة حقيقية سردتها لشاعرنا الرائد الأستاذ أحمد عبدالمعطى حجازى فى إحدى جلساتى معه، فاندهش أول الأمر لكنه قال لى بعد أن تفكر ملياً: (إن الصبى والجرسون من أبناء ثورة 1919 التى نقلت المصريين من حال بائس إلى حال رائع).
نسيت أن أخبرك أن هذا الصبى هو والدى المرحوم عبدالفتاح إبراهيم عراق الذى غاب عن دنيانا قبل 19 سنة، وبالتحديد فى 12 مارس 1995!