سأبتعد اليوم عن كل ما حولنا لأعود إليه من زمن يبدو بعيدا، لكنه وثيق الصلة بما يجرى الآن على أرض مصر. الكتاب الأول هو «حكايات من زمن فات» للمناضل كمال خليل، والكتاب الثانى هو «حكاية مشعلى الثورات» للمناضل أحمد بهاء الدين. لماذا كمال وأحمد؟ لأن كلا منهما دفع من حياته الكثير جدا مما لا يتصوره أحد من أجل حرية هذه الأمة وإقامة العدل فيها. الاثنان من كلية الهندسة جامعة القاهرة، والاثنان من الحركة الطلابية العظيمة التى وقفت للسادات ومشاريعه السياسية والاجتماعية وقفة جبارة، تجسدت فى مظاهرات واعتصامات 1972 و1975 و1977 وبعدها. وفى الوقت الذى غادر فيه أحمد بهاء الدين مصر بعد مظاهرات يناير 1977 هاربا من بطش النظام ليعيش فترة طويلة فى الخارج ثم يعود يستأنف نضاله مع حركة كفاية، ظل كمال فى مصر مترددا على سجونها أكثر من تردده على بيته، تزاملا فى الجامعة وفى النضال وفى السجون، ويتزاملان الآن فى النضال من أجل أن تحقق ثورة يناير أهدافها. أصدر كمال خليل كتابه الوحيد عن تاريخ النضال الوطنى منذ 1968 حتى نهاية الثمانينيات. كتابه مائدة رائعة وسيرة للبشر والنضال، رؤاه فيه سياسية وحكيه أدبى من طراز رفيع. حكايات تصل بأسهل الطرق إلى القلب والروح ولا تبتعد عن العقل.
كتاب أحمد بهاء الدين تحليل تاريخى اجتماعى وسياسى للثورات المصرية منذ محمد على، تنعطف أحيانا إلى حكايات إنسانية تحرك القلوب، كما تأخذ الحركة الطلابية المساحة الأكبر فى كتاب كمال خليل، حكايات ملهمة تكشف عن روح طاهرة، تحفظ لكل قدره وقيمته وتختلف مع أعدائها بروح إنسانية خالية من القذف والذم إلا حين تضيق الروح بالحصار، فتندفع معبرة عن قوة أكثر من أى شىء آخر، تأخذ الحركة الطلابية فى كتاب أحمد بهاء الدين المساحة الأكبر أيضا من التحليل. تتعانق الحركة الطلابية مع الحركة العمالية دائما، ويتأنى كمال خليل فى الحكى الأدبى الرفيع، ووصف المكان والزمان والبشر. هى حكايات بين السجن وحجوزات أمن الدولة والشوارع والميادين. قصص تبعث فى روحك الهمة والقلق والحب لهذا الوطن، وتذرف كثيرا من الدموع على من ضاع ومن مات، ومن تم حصاره لا يملك إلا صوته وقلبه وحبه للوطن وتضحك أيضا مع البسطاء. أحمد بهاء الدين يقدم الحكايات بسرعة لأنه معنى بتحليل تاريخ الثورات المصرية، فهو باحث كبير أيضا له كثير من الكتب فى السياسة والاقتصاد مثل «النفط العربى والاسترتيجية الأمريكية» و«الحركة الطلابية الحديثة فى مصر» بالاشتراك مع أحمد عبدالله رزة أيقونة النضال الوطنى و«الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية» و«الديمقراطية المغدورة فى الشرق الأوسط الجديد» وغيرها. أكثر من عشر كتب فريدة فى موضوعاتها.
حكايات حقا من زمن فات كما أسماها كمال، لكنها رصيد هذا الزمان من المقاومة. كلاهما وهو يتقصى تطور الحركة الطلابية والثورة فى مصر، وخاصة فى السبعينيات من القرن الماضى، لا ينسى كيف أفرز النظام وقتها الجماعات الإسلامية كحل أمام اليساريين والناصريين، واليساريون بشكل أخص، وكيف أمدها النظام ورجاله محمد عثمان إسماعيل، محافظ أسيوط، وعثمان أحمد عثمان وغيرهما، بالمال والأسلحة من الجنازير والمطاوى، لمهاجمة طلاب الحركة الثورية تساندهم طبعا أجهزة أمن الدولة، ذلك الوقت حتى انقلب السحر على الساحر. كمال يحكى مواقف وأحمد يحكى مواقف، ويقدما الأدلة من أقوال رجال السادات. كلاهما يشير إلى أن ما وصلنا إليه فى عصر مبارك وبعده، بل يؤكد، بل هى الحقيقة، تمت زراعته فى عهد السادات وتتطور مع مبارك، حتى إذا انكشف الغطاء عن المجتمع بعزل مبارك عن الحكم بعد ثورة يناير طفح المجتمع بما فيه.
كتاب كمال خليل فيه سيرته مع سيرة رفاقه وأهله وجيرانه والجامعة وطلابها والعمال فى كل مكان والأحزاب العلنية والسرية أكثر والجماعات السياسية فى الجامعة، والأحداث تقريبا يوما بيوم قبل الانتفاضات الكبيرة وبعدها، من الشوارع والميادين إلى السجون وبالعكس. ويمتلئ بأسماء من ساهم فى هذا النضال أو انحرف عنه أو انضم للأعداء. وكل ذلك من خلال قصص وحكايات، وبين ذلك كله مناقشة لمواقف الأحزاب والجماعات ودراسة للخطأ والصواب، لكن يظل الحكى غامر روحك بما تراه من حكايات غير متوقعة لبشر يريدون السماء.
وكتاب أحمد بهاء الدين رحلة مع الثورات فى التاريخ الحديث، وحين يصل إلى السبعينيات لا يستطيع أن يبتعد عن حكايات مؤثرة مثل حكايته عن سهام صبرى مع أحمد بهاء الدين، وسنفهم كثيرا كيف تطورت الثورات فى مصر وزادت واتسعت ولماذا، ومع كمال خليل ستعيشها يوما بعد يوم، وإن كان الزمن محصورا فى السبعينيات أكثر. ستنتهى من كتاب أحمد بهاء الدين وتتذكر على الفور حكاية هروبه بعد انتفاضة يناير، كما حكاها كمال خليل فى كتابه، وكيف تم استجوابه هو، كمال، عن اختفاء أحمد الذى كان كمال تقريبا آخر من قابله. باختصار إذا أردت أن تتعرف ببساطة وبلغة حميمة تاريخ الثورات المصرية وتاريخ الحركة الطلابية منذ ثورة طلاب وشيوخ الأزهر ضد الحملة الفرنسة، وكان هذا هو شكل التعليم الوحيد، فعليك بكتاب أحمد بهاء الدين الذى سيستمر معك حتى عصرنا، وإذا أردت أن تعيش الحياة اليومية للنضال المصرى بين الطلاب والعمال منذ أواخر الستينيات، فعليك بكتاب كمال خليل، أما إذا قرأت الكتابين معا، فستكون قد انطلقت بعقلك وأشبعت روحك بنضال أجمل زهور الوطن فى كل عصر. شباب هذه الأمة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة