أعرف أن الموت هو نهاية رحلة الحياة، وسوف يلاقينا يومًا ما، آجلًا أم عاجلًا، وأنه سوف يتسلل إلينا فى هدوء وخلسة ليختطف منا أعز الأصدقاء والأحباب. فالموت حق وحقيقة، وإذا لم نمت اليوم فسوف نموت غدًا أو بعد غد، ولو لم نجرب ونتذوق مرارة الموت، فقد جربناه وتذوقناه فى موت عزيز علينا، فى قسوة دون إنذار، أو عتاب، أو تمهيد يدرب النفس على تحمل آلام الفراق والبعاد والفقد النهائى. لكنه الموت يأتى مقتحمًا فينهى أى شىء وكل شىء، فهو الفقد النهائى الذى لا أمل فى الرجوع منه، لأنه ببساطة يصطدم بحقيقة الموت.
ليس هناك أشد قسوة وإيلامًا على النفس من تلقى نبأ مباغت بوفاة صديق عزيز عليك لسنوات طويلة، ظلت صفة الوفاء والإخلاص والحب هى العنوان لهذه الصداقة، دون أن يعكر صفوها شىء، لذلك فهو أكثر الأحزان والآلام توغلًا فى الروح والقلب، فما بالك لو كان هذا الصديق هو عزازى على عزازى، المناضل الناصرى الحقيقى، الذى ظل طوال حياته مخلصًا لأفكاره ومبادئه وانحيازاته السياسية والفكرية، ولم يتخلَ عنها أو يساوم بها لحظة واحدة من أجل سلطة أو منصب أو جاه، وحتى عندما جاءه المنصب يسعى إليه كان دومًا يؤكد أنه متظاهر وثائر من أجل الفلاحين والفقراء والبسطاء قبل أن يكون محافظًا للشرقية، وكان أول من استقال من منصبه بعد تولى الإخوان الحكم، لأنه كان واضحًا وحاسمًا فى مواقفه المبدئية، ومشروعه الوطنى الذى يتقاطع مع مخططات وأهداف الإخوان، ولم يكن مثل أبطال موقعة «فيرمونت»، أو مثل البعض الذى تأخون وتلون فى أرذل العمر.
عاش عزازى بسيطًا وقانعًا وراضيًا بما قسمه الله له فى الحياة، فمات سعيدًا متحديًا المرض اللعين الذى داهمه، ولم يهزمه إلا بالموت، عاش حاملًا همًا أكبر من هم المرض، وهو هم ووجع الوطن الذى حلم به دائمًا رغيفًا ولقمة عيش كريمة للفقراء الذى نذر حياته للدفاع عنهم.
لا أعرف متى التقيت عزازى، ربما فى نهاية الثمانينيات، لكن منذ اللقاء الأول كانت الأرواح تأتلف، وفى لحظة من لحظات الضيق من أحوال الوطن ارتميت فى أحضانه لأبكى، فوجدته يربت على كتفى ويبتسم «لا تبك يا عادل»، وهى الجملة التى صارت مصدرًا للدعابة والضحك بيننا، وفى آخر مرة التقينا فيها قبل سفره الأخير للصين قلت له مداعبًا «لا تبك يا عزازى».