أحببت د. محمود جامع واعتبرته مثل والدى وقربنى إليه بساطته وحبه للناس وإقباله على الحياة والعطاء رغم تقدم سنه.. وقد أحببت أن أعرف منه تاريخ مصر من خلال ما مر به من أزمات وما عرفه من شخصيات وما مر به من أحداث.. فحياته ثرية جداً على كل المستويات وشخصيته فيها الكثير من النضج والعمق.. إذا عشت معه تجربته الإنسانية شعرت بعمق هذه التجربة.. سواء اتفقت معه فى الرأى حول الأحداث التى مر بها أو اختلفت.
وإذا عشت معه مرحلة انضمامه للإخوان والقبض عليه وتعذيبه استغرقتك هذه التجربة أيضاً.
وإذا عشت معه تجربته السياسية حينما أصبح مقرباً من السادات ونافذاً فى الحكم تعجبت لأحوال الدنيا التى تنقل المعتقل والمعذب إلى صفوف الحكام والوزراء حتى يطلب منه من عذبوه شفاعته لأولادهم.
وإذا عشت معه كإنسان ودود لطيف كثير المزاح خفيف الظل أحببت مصادقته دوماً.. وقد استمعت إلى تجربة حياته كاملة وتعلمت منها الكثير ويسعدنى أن أنقل هذه التجربة الحية لقرائى الأعزاء.
فقد ولد د. محمود جامع سنة 1932م.. وكان أبوه قاضياً شرعياً وجده كان عمدة من أعيان المنوفية.. وكان له ثلاثة أشقاء إحسان وجلال ونبيل.. وكان ترتيبه الثانى بينهم.. وأصيب الأربعة بالحصبة والالتهاب الرئوى مما أدى إلى موت أشقائه الثلاثة فى يوم واحد فى مأساة مروعة مثلت صدمة عنيفة للأسرة عامة ووالدته خاصة.
ثم أنجب والده عدة أشقاء وشقيقات ومات فجأة ليتركه وحده مسؤولاً عن هذه الأسرة الكبيرة وعن ثمانية من الأشقاء والشقيقات.. خاصة بعد أن أصيبت والدته بحالة من الحزن والاكتئاب فرضت عليه أن يقوم بكل مسؤولية أشقائه.. فكان لهم الأب والأم والشقيق والصديق.. حتى أنه استلم شقيقه الأصغر وعمره 40 يوماً ولم يتركه حتى أصبح أستاذاً فى كلية الطب.
لقد كان د. محمود جامع يمتلك عزيمة جبارة وشعوراً جارفاً بالمسؤولية وكان عاشقاً للتحدى طوال عمره.. وبعض أشقائه وصل اليوم إلى السبعين من عمره ورغم ذلك يقبل يد د. محمود حتى اليوم عرفاناً بجميله.
وقد تعرف د. محمود جامع على الإخوان ودخل معهم بعد سماعه للشيخ حسن البنا وهو يخطب فى مسجد المنشاوى باشا بطنطا.. ودخل فى نظام الأسر الإخوانية وتعرف فيها على د. القرضاوى ود. أحمد العسال وعز الدين إبراهيم ود. عبدالعزيز كامل.. وكانوا من أهم الدعاة الشباب فى الإخوان فى الأربعينيات.. وعاش أيام الرحلات الدعوية الخلوية.. ووصف هذه الأيام بأنها أجمل أيام عمره على الإطلاق سكنية وصفاءً وتجرداً وقرباً من الله.
وعاش بنفسه لحظة اغتيال اللواء سليم زكى فى جامعة القاهرة.. فقد حكى لى أنه رأى بعينى رأسه مشهد مقتل اللواء سليم زكى.. فقد قام البوليس باقتحام كلية طب القصر العينى وضربوا المتظاهرين داخلها ضرباً شديدا ً.. وكان اللواء سليم يركب عربة مدرعة نزل منها وهو يأمر الجنود بضرب المتظاهرين.. وكانت هناك مجموعة من الطلبة فوق مبنى الفسيولوجى بالكلية.. وكان أحدهم يحمل شنطة أخرج منها قنابل وديناميت وألقى قنبلة على القوات.. وأخرى سقطت بين أقدام اللواء سليم زكى وخرجت منها شظية أصابت عنقه مباشرة.. وأكد أن عملية اغتيال اللواء سليم لم تكن مدبرة وكانت وليدة اللحظة.. ولكن دخول القنابل والمتفجرات للجامعة كان معداً ومجهزاً.
وقال لى:
أن حل النقراشى لجماعة الإخوان لم يكن بسبب ضبط السيارة الجيب التى تحمل وثائق التنظيم الخاص للإخوان التى أدت إلى انكشافه فحسب.. ولكن السبب الآخر هو البطولات التى قامت بها فصائل من الإخوان فى فلسطين فأوعزت بريطانيا إلى الحكومة المصرية بذلك حتى تتمكن دولة إسرائيل من القيام والوجود بسهولة ويسر».
وقد كان د. محمود جامع صديقاً لعبدالمنعم عبدالرءوف عضو مجلس قيادة الثورة.. كما أن جده قد استضاف الرئيس السادات أثناء هروبه من الشرطة فى الأربعينيات.
كما كان والده صديقاً حميماً لأحمد عبدالغفار باشا أحد الوزراء فى العهد الملكى فلما قامت ثورة 23 يوليو ذهب د. محمود جامع إليه ليواسيه فى محنة اعتقاله شهراً ويهنئه بالإفراج عنه وكان د. محمود مثل الشباب مؤيداً للثورة فلما مدحها أمام الباشا الوزير رد عليه قائلاً:
يا محمود يا بنى ضباط مجلس قيادة الثورة لا يفهمون شيئاً فى السياسة ولا فى القانون.. وسترى البلد منهم المرارة والأهوال.
فقال له محمود:
المهم مصلحة البلد.. وهى لا تتأثر باعتقال أحد حتى لو كان وزيراً.. والوضع قبل الثورة كان سيئاً وكانت الشرطة تضرب المظاهرات.
فقال له الباشا:
يا محمود يا بنى: نحن كنا نضربكم بالعصى والخرازنات فى المظاهرات.. لكن هؤلاء الثوار الجدد سيضربونكم بالنار إذا خرجتم مظاهرات.. وسترون التعذيب على حقيقته وأصوله.
وهذا ما رآه د. محمود جامع حقاً حينما قبض عليه سنة 1954 بتهمة الانتماء للتنظيم الخاص بالإخوان.. حيث عذب عذاباً فظيعا ً.. وكاد أن يمكث فى السجن معظم حياته لولا أن قيض الله من يتوسط له ليخرجه من السجن قبل أن يزج به إلى محكمة الثورة.. فقد توسط له الرئيس السادات وضمنه لدى عبدالناصر.. رداً لجميل جده على السادات أثناء هروبه.
لقد شهد د. محمود جامع احتدام الصراع بين الإخوان وعبد الناصر حينما كان طالباً فى بكالوريوس طب القاهرة فى يوليو سنة 1954.. وكان له نشاط واسع فى الكلية واتحادات الطلاب والمعسكرات الإسلامية.. وكانت له علاقة طيبة بكل التنظيمات السياسية الموجودة.
وكان يدرس لهم مادة الباطنة أ.د. مصطفى قناوى الطبيب الخاص بعبد الناصر فى الخمسينيات.. وبعد انتهاء الدرس قال له ولزميله سالم نجم: انتظرانى بعد الدرس.
فلما خلا بهما فى مكتبه قال لهما:
يا أولاد أنتم شباب ممتاز وأنا كنت عند عبدالناصر وهو ناقم على الإخوان نقمة شديدة.
وقال لى:
إننى سأذبحهم كلهم وشتم على الهضيبى «الأب» بالذات.. وأنا أريد أن أقرب المسافات بينكما.
وقد قلت لعبد الناصر:
عندنا يا ريس شباب ممتاز منهم يمكن أن تتفاهم معهم حتى تحل المشكلة بينك وبين قيادتهم.
فقال عبدالناصر:
ليس عندى مانع من الجلوس مع عشرة من شبابهم للاتفاق على أمرين هامين هما:
1 - حل التنظيمات المسلحة لدى الإخوان وتسليم الأسلحة التى بحوزتهم.
2 - النظر فى تعيين بديل عن الهضيبى «الأب».
وفعلاً حاول د. جامع مع صديقه د. سالم نجم أن يذهبا إلى مكتب الإرشاد للاستئذان منه فى مقابلة الرئيس ناصر.. فأبى سالم نجم ذلك وقال لجامع: أنت شاطر يا جامع وسلكاوى.. أذهب أنت.
وفعلاً ذهب جامع ليستأذن فلم يجد سوى المرحوم خميس حميدة الذى قال له بعد أن استمع إلى القصة:
لا تتدخل أنت فى الموضوع.. وأول ضحية لفشل الحوار سيكون هؤلاء العشرة.
ثم نقل ذلك د. جامع إلى أ.د. قناوى الذى قال فى أسى:
يا محمود أنا أحبكم جداً.. وهناك خطر حقيقى عليكم.. وأنا أعرف عبدالناصر أكثر منكم.
ثم فوجئ د. جامع بأن مسؤوله فى النظام الخاص يبلغه أنه تم فصله من النظام الخاص والجماعة معاً.. والسبب هو اتصاله بالسلطة.. وقالوا له سلم كل متعلقاتك.
ويحكى لى د. جامع عن هذه الأيام العصيبة.. وكيف أنه أصبح كالمنبوذ تماماً.. لا سلام ولا كلام.. وبعض إخوانه لا يسلمون عليه وكأنه قد كفر.. وبعضهم يسلم عليه حياء ً منه.. والبعض يقول له أنت هكذا أفضل.
ويقول لى:
والأغرب من ذلك أن د. جامع أصابه التخبط والحيرة بعد حادث المنشية وقال لنفسه:
ما موقفى الآن.. وبماذا ستصنفنى الحكومة.. ثم وجد ما هو أسوأ من ذلك حيث تقاطر على شقته كل الهاربين من القبض عليهم.. والداهية الأكبر أنهم أعطوا عنوانها للآخرين من الهاربين.
وكان بعضهم يحسن التصرف.. وأكثرهم لا يملك أى حاسة أمنية حتى عرفت الشقة فهوجمت ثم قبض عليه ثم أفرج عنه لمراقبته.. ثم طاردته الشرطة بقوة فى يوم من الأيام فتعلق هو وصديقه أ.د. سالم نجم على مواسير الصرف حتى كادت يده أن تتمزق.. وهو يدعو الله بكل كيانه.. فهو بين نارين إما القبض عليه أو الموت سقوطاً على الأرض.
ثم تفتق ذهنه هو وصاحبه أ.د. سالم نجم عن فكرة غريبة تحل مشكلة السكن ولقمة العيش.. فذهب للعمل مع عمال التراحيل.. حيث وجدا المأوى الآمن مع الفول والطعمية يأكلانهما بجوار القصعة كل يوم.
وكان كل واحد منهما يتقاضى ريالاً واحداً عن كل يوم.. وفى يوم من الأيام جاء ضابط من فرقة مكافحة النشل مع مخبريه وجنوده لفحص العمال بالليل.. وكان زميله فى الثانوية العامة فلما نظر إليه قال :
ألست أنت محمود جامع من الإخوان؟.. أنت كنت معى فى الثانوية العامة.. فلم يجد جامع مفراً من الإقرار بذلك.
فلما سأله: لماذا هذه البطاقة المزورة؟
قال: الظروف حكمت بذلك.
فقال له: خلاص خليك مفيش مشكلة.
ولكن رئيسه الأعلى قال: لا.. هذا من الإخوان نحن نريده.
فقبض على د. جامع الذى فصل من الإخوان.. ونجا د. سالم نجم الذى أصبح بعد ذلك عضواً بمكتب الإرشاد قبل أن يتوفى إلى رحمة الله.. وللحديث بقية إن شاء الله.