من الأقوال المأثورة «يُعرف الرجالُ بالحق ولا يُعرف الحقُ بالرجال».. لكن الإمام الشاطبى يقول «إذا كان الحقُ هو المعتبْر دون الرجال، فهو أيضاً لا يُعرف دون وسائطهم فهم الأدّلاءُ عليه».. أى أن هناك من الرجال الثقات من يُعرف الحقُ بهم، لأنهم عُرفوا بالحق أولاً.. رجالٌ إذا اتخذ المرءُ موقفاً ووجدهم يتبنون رأياً مغايراً له فلا بد للمرء على الأقل أن يتمهل ويراجع نفسه.. أعتقد أن من هؤلاء الرجال قديس الوطنية المصرية الزاهد فى الإعلام والمناصب الدكتور عبدالجليل مصطفى، وأضيف إليه الدكتور محمد المخزنجى.
رأيته أول مرةٍ فى إبريل 2006 فى مؤتمرٍ لدعمى فى نقابة الصحفيين.. لَفَت انتباهى هذا الشيخ الجليل غير المعروف (لى) ذو الابتسامة الأبوية الجالس فى الصفوف الخلفية، ويُحييه بإجلالٍ كل مشاهير الحركة الوطنية. سألتُ أحدهم عنه فبدا عليه الاندهاش لجهلى، وأجاب باقتضاب «هو الدكتور عبدالجليل مصطفى أستاذ الباطنة بطب القصر العينى».
عرفتُ بعد ذلك أن هذه مهنته فى بطاقة الرقم القومى.. لكنه أكثر وأكبر وأروع من ذلك بكثير.. هذا الرجل العظيم أمةٌ وحده.. بلا حزبٍ ولا تنظيمٍ ولا جماعة.. هو طبعاً أستاذ الباطنة الشهير الذى لا زال يُجسّد مقولة أن الطب رسالة (ولن أزيد). وهو المديرُ الناجح سواء فى القصر العينى الفرنسى فى بدايته، أوعندما انتُدب لإدارة مستشفى السلام الدولى فنقلها من الخسارة إلى الربح ومن القصور إلى الكفاءة. وهو الإنسان المؤمن الحق الورِعُ بلا رياء، الذى لا يعلم إلا قليلون أياديه الممتدة بالخير منذ ثلاثين عاماً من خلال جمعية خدمات رملة بولاق.
لكنه أيضاً هو الوطنى (لا السياسى) الذى ما ترك ثغراً من ثغور الوطن إلا واستبسل فى الدفاع عنه. فهو رفيق درب الدكتور محمد أبو الغار فى حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وهو صاحب الحكم الشهير بإلغاء الحرس الجامعى وهو الحكم الذى يهاجمه البعض الآن (عن جهلٍ أو سوء نية) دون أن يوضحوا أن الحرس المقصود، كان هو ذلك الشئ المُهين الذى يتدخل فى كل شىء فى الجامعة (بما فيها الشؤون الأكاديمية) بما يفقدها الاحترام والاستقلال، وهو شئٌ مختلفٌ تماماً عما يطالب به الجميع الآن (بمن فيهم د. عبدالجليل مصطفى) من تدخل الشرطة لحفظ الأمن وحماية الأفراد والمنشآت.
وهو أحد مؤسسى الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية».. قرين الدكتور عبدالوهاب المسيرى المتوارى عن الإعلام.. كان فى صدارة كل فعالياتها بلا استثناء.. وعندما توفى الدكتور عبدالوهاب المسيرى أجمع الكفائيون على اختياره منسقاً عاماً للحركة، فرفض بشدةٍ ولم يوافق إلا بشرط أن يكون ذلك لمدة 6 شهور فقط يُكمل بها مدة د.المسيرى، وهو ما كان بالفعل.
وهو السنَد القوى لحركة الدفاع عن الحق فى الصحة.. أما حركة «لا لبيع مصر» التى تشرفتُ بأن أكون منسقها، فإننى أشهدُ على أدوارٍ ومواقف تضيق المساحة بذكرها، وأكتفى بإسهاماته فى صندوق حماية الشرفاء الذى اخترعناه لجمع التبرعات لتحمّل غرامات محاربى الفساد الذين استُدرجوا لقضايا سب وقذف.
ثم كان من مؤسسى الجمعية الوطنية للتغيير التى قادت المعارضة السلمية لنظام مبارك فى عامه الأخير، وأشرف على اللجنة الإلكترونية لجمع التوقيعات على المطالب السبعة للتغيير، وتصدى بصرامةٍ لمحاولات البعض للمبالغة فى أعداد التوقيعات، وكان يحذف آلاف التوقيعات المشكوك فيها قائلاً: «إن توقيعاً واحداً مزوراً يلغى مصداقية مليون توقيع حقيقى».. ثم رضخ لإلحاح الأمانة العامة للجمعية، ليكون منسقاً عاماً لها.. وعانى كثيراً لتجميع الفرقاء داخل الجمعية التى كانت تضم (إلى جانب الشخصيات العامة) معظم ألوان الطيف السياسى من الحزب الشيوعى فى أقصى اليسار إلى جماعة الإخوان فى أقصى اليمين.. كان يعمل على تهدئة الجميع وحثّهم على التماس العذر لبعضهم البعض، لاسيما جماعة الإخوان فى بعض تصرفاتها.. وترفّع عن عتاب الجماعة عندما غدرت به شخصياً فى انتخابات نادى هيئة التدريس، ورفض عرضاً من النظام بدعمه إذا طعن فى إجراءات الانتخابات ونتيجتها.
لا ينسى كثيرون بكاءه الحار وهو يتلو أبياتاً من قصيدة «مصر تتحدث عن نفسها» قبل ثورة يناير بأيام.. دعوت الله من قلبى لحظتها ألا يخذل هذا العاشق الكبير، ويُمتع ناظريه بنصر محبوبته.. والحمد لله مجيب الدعاء.
كان من حسن حظى أننى لازمت هذا الرجل العظيم طوال أيام ملحمة يناير 2011 فى عيادته على مشارف ميدان التحرير. تلك العيادة التى كانت مركز القيادة الخلفى للثورة.. دخلها الرجل صباح 28 يناير، ولم يغادرها إلى منزله إلا مساء 13 فبراير بعد سبعة عشرة يوماً بلياليها قضاها بين الميدان والعيادة، عندما تُروى تفاصيلها ذات يومٍ ستنكشف الأحجام الحقيقية لكثيرين ممن تاجروا بالثورة بعد ذلك.
بعد رحيل مبارك تسابق كثيرون ممن شاركوا فى الثورة (أو لم يشاركوا) لجنْى الغنائم أو التلميع الإعلامى، وتوارى عبدالجليل مصطفى متعففاً، وإن ظل مهموماً بهذا الوطن الذى أحبّه.. يداوى أخطاء الصغار ومراهقى السياسة ويصبر على أذاهم.
أشفقتُ عليه عندما ظهر فى صورة فيرمونت الشهيرة.. ثم ثبت أنه كان على الحق، إذ أن التصويت الرئاسى كان قد انتهى بالفعل قبلها بأيام ولم يتبقَ إلا إعلان النتيجة، ولكنه ومن معه نجحوا فى استنطاق واستكتاب مرسى وإخوانه وعوداً لمصر فى حالة فوزهم، صارت حجةً على مرسى ودليلاً على سوء طويته عندما نكص عنها بعد ذلك. ثم ثبت أنه كان مُحقاً وكبيراً عندما عاد للجمعية التأسيسية لدستور 2012 ليعطى فرصةً للدكتور مرسى للخروج من أزمتها.. ثم كان مُحقاً بعد ذلك عندما أعلن انسحابه منها كشاهدٍ من أهلها، كاشفاً فضيحة أن مواد الدستور كانت تأتى مطبوخةً من خارجها. ثم كان رمانة ميزان جبهة الإنقاذ التى تشكلت للوقوف فى وجه مشروع اختطاف الدولة المصرية، وكان لحكمته فضلٌ كبيرٌ فى التقريب بين أعضائها وتأجيل تناقضاتهم.
وبعد 30 يونيو كان دوره محورياً فى الجمعية التأسيسية لدستور 2013 كمقررٍ للجنة الصياغة.
ربح السيسى وحملته بلا شك بالإعلان عن وجود هذا الناصح الزاهد الأمين ضمن مستشاريه، فهو وسامٌ على صدر من يعرف قدره.. أما عبدالجليل مصطفى نفسه فيعتبر تقديم النصح والمشورة فى هذه اللحظة أمانةً ومهمةً وطنيةً تتسق مع تاريخه، وإن عرضّته من جديدٍ لتطاول بعض الصغار.
عندما سألته المذيعة منذ أيامٍ بماذا تحب أن نُعرّفك: منسق كفاية أو منسق الجمعية الوطنية للتغيير، أو عضو لجنة الدستور، أو 9 مارس.. أو.. أو.. طفرت من عينيه دمعةٌ وقال بتواضع الكبار، «أنا مجرد مصرىٍ يحاول أن يكون إنساناً وطنياً».. ما أجمل الوطن الذى أنجبك!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Magdy Geisa
بارك الله فيك