ننتهى من صلاة الجمعة، ويخرج كل منا من بابه المفضل أتجاوز أنا ذلك الشبشب المتهالك ويتفادى هو تلك الجزمة الغلبانة المدفونة أسفل أخواتها رغم أن صاحبها أول من حضر للمسجد مبكراً، بينما ثالثنا كعادته يكون أول الخارجين.
تتسلل إلى مسامعنا نداءات الطماطم المجنونة والمانجو الذى يقسم صاحب الصوت العالى أنها إسماعيلاوى، وحبات العنب التى تنطق بأنها بناتى كما يقول بائعها، وتسيطر كل هذه الصرخات على عقولنا التى حاول الخطيب جاهداً أن يخضعها لخطابه الدينى المحنط تطرفاً أو تفاهة، ونتذكر ملامحه المعترفة فى نهاية كل خطبة بأنه أضعف من أن يؤثر فى الناس عاطفيا أو عقليا، ثم نبتعد عن المسجد على يقين بأننا سنعود الجمعة المقبلة لنسمع ما حاولنا ألا نسمعه فى جمعتنا هذه، ثم نلقى بنداءات الباعة خلف ظهورنا لأننا سنسمعها بما يستجد عليها من تطويرات مواسم الفاكهة التى أصابتها علوم الهندسة الوراثية بتقلب وعدم استقرار.
تعانق أقدامنا آثار خطواتها التى حفظت الطريق المعتاد إلى المقابر، يذهب كل منا إلى قبره، أقرأ الفاتحة لأبى، ويقرأها أحمد لوالدته، ويفعلها صديقنا الثالث أمام قبر عمه، ثم يجمعنا قبر واحد فى نفس التوقيت دون اتفاق مسبق، نقف أمام اللوحة الحجرية التى تنطق بحداثتها وحيويتها بين لوحات أخرى تتحدث عن أزمنة كان الأبيض والأسود هو لغتها الرسمية، ترتكز عيوننا على سطر مكتوب باللون الأخضر يحكى عن ما يسميه الناس بعد الموت «فقيد الشباب»، ونتذكر تلك اللحظة التى خرجنا فيها من صفوف مدرستنا الإعدادية فى طوابير منتظمة تتصدرها أزهار مصنوعة على عجل، ولوحات تحملها عيون تبكى فى هدوء، متعجبين من المدرس صاحب أغلظ عصاية فى المدرسة وهو يبكى، ومدير المدرسة بجلالة قدره يختلس من الطوابير السائرة فى هدوء لحظات ليزيل ما تراكم من دموع خلف نظارته الطبية السميكة، وتلك المدرسة الجميلة فتاة أحلام كل التلاميذ وقد ازداد وجهها حلاوة من الحمرة التى يصنعها البكاء، ومن بين كل خيوط الذكريات هذه، يبقى الخيط السميك.. لحظة وصول طليعة الصفوف إلى المقابر وانهيار نظامها بعد ظهور المحمل الأخضر وبه جسد زميلنا الذى قتله تشخيص طبى خاطئ لطبيب غير مسؤول حصل على شهادته من كلية غير مسؤولة وغير مؤهلة برعاية دولة غير مسؤولة لا تهتز لها شعرة إن ضاعت حياة مواطن أو ألف.
نقف أمام القبر الذى ظلت زهوره تتجدد لعدة سنوات، ونتذكر «عبده» الذى أصبحت أدور حول منزلى مرة ونصف حتى لا ترانى الدموع المحبوسة فى عيون أمه فتنطلق وهى تعانقنى أو تدعو لى، ثم نرحل صامتين وبرفقتنا نظرات متباعدة تسأل فى خجل هل يرافق أحد «عبده» قريباً؟.. لماذا تذكرت كل هذه الأشياء؟ لا أعرف.. ربما لأننا نفقد كل يوما عزيزاً شاباً فجأة برصاصة طائشة أو إهمال طبى أو حادثة مرور ونتساقط كما يتساقط الذباب دون أن يهتز أحد، وربما لأننا لم نجد الزهور المعتادة أمام اللوحة التى مازالت كلمة «فقيد الشباب» تميزها، أو ربما لأننا عدنا لنضحك معاً بنفس الطريقة العيالية فى نفس الطريق الذى كنا نلتقى به منذ حوالى 18 سنة، دون أن ننسى ضحكة من جمعنا أمام قبره.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة