أخرجوهم من قريتكم.. لماذا؟ ماذا فعلوا؟ ما الجرم الذى اقترفوه؟! ما الخطيئة التى تلبسوا بها؟! إنهم أناس يتطهرون.. هكذا فقط؟! يتطهرون!! أتلك هى مشكلتهم وهذه هى جريمتهم وذاك وحسب، هو ما تنقمون عليهم؟ نعم هكذا كانت الإجابة، ذلك هو المناط وتلك هى الحقيقة الواقعية المؤلمة، حقيقة أن انقلاب المعايير وتحول الحق إلى باطل والباطل إلى حق لابد أن يؤدى لهذه النتيجة، لابد أن يؤدى إلى إخراج آل لوط من القرية ومن كل قرية يُخَوَّن فيها الأمين، ويُؤتَمَن فيها الخائن، ويُكَذَّب فيها الصادق ويُصَدَّق فيها الكاذب وينطق الرويبضة.
بهذه الكلمات الجامعة وصف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك الحالة التى تنقلب فيها المعايير وتتصدع القيم وتنهار المبادئ، وتستحق تلك السنوات ذلك اللقب الذى أطلقه عليها النبى لقب السنوات الخداعات، وهكذا نرى مصداق كلماته يوميا ونشهد حقيقتها صارخة جلية من حولنا، وتنضح بها التجارب الإنسانية السابقة واللاحقة ترفع ذلك المبدأ المعكوس والمنكوس.. مبدأ أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون.
والحقيقة التى ينبغى أن ندركها أن بداية انهيار أى تجمع بشرى، تكون بتصدع القيم التى قام عليها ذلك التجمع، لكن الأمر لا يحدث بغتة ولا تنقلب تلك المعايير بين عشية وضحاها.. الأمر يستغرق وقتا بلا شك، والانهيار يسبقه تصدعات وتشققات فى جدر تلك القيم والمبادئ،
ثم تتسع تلك الشقوق تدريجيا حتى تصير النفوس القابعة خلفها عرضة لكل عوامل الإضرار بها، والتأثير عليها ثم ينكس الجدار وينهار بناء القيم بعد حين.. إن الطريق من كون الخطأ خطئا إلى كونه أمرا طبيعيا أو عاديا بل وربما مستحبا ليس طريقا قصيرا أو سريعا، لكنه يمر بدروب التوارث ومسالك التطبيع التدريجى مع ذلك الخطأ.
ولقد ظهر ذلك جليا فى آية من سورة الأعراف، حيث سبق وصف القوم للفاحشة بأنها أمر من الله قولهم "وجدنا عليها آباءنا"، لقد حدث التطبيع التدريجى مع الخطأ وتمت شرعنته وتسويغه بل وتزيينه.. ربما تطلب الأمر عقودا طويلة وأجيالا تلو أجيال حتى صار الخطأ فى النهاية دينا يتدين به هؤلاء لدرجة أن قالوا عن الفاحشة بلا استحياء: "والله أمرنا بها"، هنا كان لابد من البيان القاطع "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون".. إن التطبيع والتصالح مع الخطأ وتوارثه الأعمى قد يؤدى فى النهاية لتلك المصيبة.. أن تتحول الفاحشة إلى طاعة وأصل وأن تنطمس حقيقة كونها فى النهاية فاحشة.. أشياء كثيرة نتعامل معها اليوم بشكل عادى وطبيعى كانت بالأمس أمورا مستقبحة مستنكرة، قيم وأخلاق كانت طبيعية وغير متكلفة صارت اليوم نادرة وشاذة وصار ينظر للداعين إليها باستهجان ودهشة ويكأنهم يغردون خارج السرب أو يؤذنون فى مالطة، أمور كان بعضنا لا يتخيل - مجرد تخيل - أن يشهدها صار اليوم يقترفها بكل أريحية بل وينكر على من لم يزل على عهده الأول ومبادئه القديمة.
أناس كانوا على حال ثم صاروا إلى نقيضه فلا تدرى حقا هل يعرفون تلك الوجوه التى يطالعونها فى مراياهم أم تراهم ينكرونها وتنكرهم.. ثم ماذا بعد؟! ماذا يبقى لنا بعد أن تذهب قيمنا ومبادئنا؟! وإلى ماذا سيؤول حالنا وقد تصدعت أصولنا وبدأت الشقوق تتسع؟! ترى هل سننتبه إلى تصدعها مبكرا أم سنتركها تنخر فى جدر مبادئنا وأصولنا حتى تنكسها وتقلبها رأسا على عقب ويصير الشعار بصورة، أو بأخرى فى النهاية هو أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة