عشرات السنين الآن، وأمامنا عصابات نهب الآثار، ونهب الأراضى، والبناء على الأراضى الزراعية، وردم بحيرات مصر العظمى، وغيرها من اعتداءات على البيئة والمكان والتاريخ والحضارة، بعيدًا عن الدولة، أو تحت سمع وبصر الدولة وأجهزتها فى معظم الأحيان.. بعد ثورة يناير عاد ذلك بشكل كبير، ورأينا وعرفنا عمليات نهب الآثار، والاعتداء على تاريخنا الحضارى ممثلًا فى مبانيه القديمة، وقامت حركات مقاومة من الشباب وغيرهم لما يجرى، ومحاولات لحث الدولة التى صارت تقوى كل يوم على القيام بعملها الغائب.
والحادث أنه كثيرًا ما صدّرت الدولة «ودن من طين وودن من عجين»! قيل كثيرًا إن ذلك بسبب عدم استقرار الوزارات، وعدم قدرة أى مسؤول على اتخاذ قرار لا يعرف إلى أين ينتهى به بعد ذلك، وكأن عدم استقرار الوزارات يعنى عدم العمل!
كتبت مثل غيرى فى أكثر من مناسبة، وكانت هناك استجابة أحيانًا، خاصة حين يكون الأمر بسيطًا فى الاستجابة، لن يكلف إلا قرارًا، أو الرجوع فى قرار، لكن تسعين فى المائة مما قاومه الشباب وغيرهم من المهتمين بتاريخ الوطن وحضارته من خراب وسرقة تم تنفيذه، ولا يزال.
صارت الدولة ظاهرة العداء لحضارة هذا الوطن، فلم تقم حتى الآن بتغيير القانون الذى سمح بهدم العمارة القديمة، ولم تسع لتعويض أصحابها، والبحث عن حلول ملقاة فى الطريق تعتمدها كل الدول المحترمة لحماية تاريخها وعمارتها، والآن يشتعل الحديث حول حديقة الفسطاط، والجانى حتى الآن هو الدولة نفسها كالعادة، ليس بالصمت أو «التطنيش»، لكن بالعمل من أجل القضاء على هذه المنطقة الأثرية القديمة.. اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى وبعض الصحف بالحديث عن الجريمة، وإليكم ما كتبته واحدة، هى الناشطة سالى سليمان فى مجال حماية الآثار.
مدينة الفسطاط أول عاصمة لمصر بعد الفتح الإسلامى 641م، الموقع مهمل تمامًا من قبل الثورة، ثم تم تحويله بين ليلة وضحاها إلى «مقلب زبالة» لمحافظة القاهرة بعد الثورة، وأنا شاهد عيان على ذلك، والصور توضح تعدى الدولة بفجاجة على تاريخ مصر، فهذه المنطقة التى تبلع سبعة أفدنة تغطى 1000 سنة من تاريخ مصر، قمنا بحملة إعلامية ضخمة العام الماضى لإنقاذ حفائر الفسطاط، واستجاب لنا على استحياء محافظ القاهرة السابق لمدة أسابيع، فتم رفع بعض القمامة من الموقع، ثم كان الحل الأمثل للحكومة حينها أن تعلو بالسور المحيط بالمنطقة لمنع التصوير، وتم التنبيه على القائمين بمنع أى تصوير!
منذ حوالى شهر تقريبًا فوجئنا بحالة من الهِمة والنشاط من عربات تابعة لشركة المقاولين العرب تقوم برفع «الزبالة»! الحقيقة لم نحسن الظن بما يتم فعله، وفوجئنا بأخبار تتوارد عن أن المنطقة سيتم نزع ملكيتها كأرض تابعة للآثار لتتبع المحافظة.. لا نعلم- إن صح الخبر- بأى حق يتصرف وزير الآثار فى موقع أثرى مهم مثل هذا، والموقع تم التنقيب به على يد العالم المصرى على بهجت سنة 1912، واستمر التنقيب به إلى الآن على يد البعثة الفرنسية التى تأثر عملها بعد ثورة 25 يناير، لعدم توفر الأمن فى الموقع.. شكل رئيس الوزراء لجنة وزارية لتطوير منطقة الفسطاط الأثرية من محافظ القاهرة، ووزيرى الآثار والبيئة، وصرحت قيادات وزارة الآثار بردم الموقع لتحويله إلى حديقة تروى بالتنقيط، للحفاظ على الآثار التى ستدفن، مدعين أن ذلك من أجل الحفاظ على الأرض، حين أثير الموضوع إعلاميًا تم التكذيب من نفس القيادات التى أعلنت المشروع.
والمادة رقم عشرين من قانون الآثار التى أذكركم بها يا سادة الحكام تنص صراحة، وبلا أى قدرة على التأويل المغلوط، على حماية المناطق الأثرية، فهى تنص على أنه لا يجوز منح ترخيص للبناء فى المواقع أو الأراضى الأثرية، ويحظر على الغير إقامة مدافن أو شق قنوات أو إعداد طرق أو الزراعة فيها، أو فى المناطق العامة للآثار، أو الأراضى الداخلة ضمن خطوط التجميل المعتمدة، كما لا يجوز غرس أشجار بها أو قطعها أو رفع أنقاض منها، أو أخذ أتربة أو أسمدة أو رمال، أو إجراء غير ذلك من الأعمال التى يترتب عليها تغيير فى معالم المواقع والأراضى إلا بترخيص من الهيئة، وتحت إشرافها، ويسرى حكم الفقرة السابقة على الأراضى المتاخمة التى تقع خارج نطاق المواقع المشار إليها فى الفقرة السابقة، والتى تمتد حتى مسافة ثلاثة كيلو مترات فى المناطق غير المأهولة، ولمسافة تحددها الهيئة، بما يحقق حماية الآثار فى غيرها من المناطق.. ويجوز بقرار من الوزير المختص بشؤون الثقافة تطبيق أحكام هذه المادة على الأراضى التى يتبين للهيئة بناء على الدراسات احتمال وجود آثار فى باطنها، كما يسرى حكم المادة على الأراضى الصحراوية، وعلى المناطق المرخص بعمل محاجر بها.
المعلومات التى انتشرت أن أى أرض تخضع لقانون الآثار سيتم التنازل عنها لصالح المحافظة، لإقامة مشروعات عليها، وسيسرى هذا فى كل المحافظات، والتى نفاها وزير الآثار بشدة، واتضح أنها حقيقة، إذ انتهى الأمر بلافتة على المكان تقول إنه ملك محافظة القاهرة، وهذا يعنى صحة ما قيل، وبداية ردم المكان القائم منذ فتح عمرو بن العاص مصر، والذى يصل إلى حوالى ثلاثة عشر فدانًا بالفضاء الذى يحيطه، وأنه سيتم ردم الأرض فعلًا بما تحتويه من آثار. شاطرة هذه الحكومة، مثل غيرها من الحكومات التى لا ترى معنى لا للأرض، ولا للناس، إلا المال والاستثمار دون أى معنى للحضارة والجمال والتاريخ.. شاطرة فى إخفاء الحقائق بشكل مضحك لأن ذلك يتم فى عصر الميديا، والتواصل الاجتماعى السريع على الإنترنت، ووجود مئات من الشباب النشطاء المثقفين الذين يستطيعون الوصول إلى الحقائق فى أقل قدر من الزمن.. هذه الحكومة التى تتشدق بهدم بعض المبانى المخالفة هى أصل الخلاف وأساسه، فهى مثل كل من سبقوها، حكومة تنضم للمقاولين الذين استباحوا كل البلاد منذ زمان، بموافقة الأجهزة المحلية، وطبعا سيظهر رجال أعمال محظوظون يفوزون بالموقع الذى لا مثيل له، ولن تكون حتى حديقة ولا غيره، ويستمر الخراب العلنى بالموافقة المباركة من حكومة الخراب التى ستملأ سماءنا بدخان الفحم محبة للمستوردين، وستردم تاريخنا محبة فى المقاولين، وتحصن عقودها فى بيع البلاد لمن يسمونهم مستثمرين، و«عليه العوض فيكى يا مصر».