أقصد بالريف هنا حالة اجتماعية ليست جغرافية، بمعنى أن الريف يعنى البساطة والعلاقات القائمة على الشفاهية وفى نفس الوقت التداول العائلى بين أبناء الأسرة الواحدة، حيث الارتباط اللصيق، ويشير الريف إلى احترام الكبير والأمهات والمشايخ والمدرسين، ولا يعرف الريف العلاقات العنيفة بين السكان، فنادرا ما ينتشر السلاح بين سكانه، كما أن احترام السلطة وعدم المجازفة بمواجهتها أحد ملامح الريف. وكنت قد زرت قريتى «ديمشلت» وهى من أعمال مركز دكرنس بمحافظة الدقهلية، وهالنى تحول العلاقات فى الريف ولعل أهمها هو تصدر الشباب ليصبحوا مركزا للقوة والتأثير وصناعة القرار بحكم ما يملكونه من مال وسلاح، لم يعد الكبار هم الذين يوجهون أبناء العائلات الصغار، وإنما أصبح هؤلاء الشباب هم من يقررون لأنفسهم دون الرجوع إلى مشايخهم وكبرائهم من ذوى الحكمة والوجاهة والذين يعرفون تقاليد القرية وحكمتها القائمة على اعتبار الجوار والقرابة والمصاهرة، وعدم الإيغال فى التعصب خير وأبقى من إهدار تلك الروابط والدخول فى صراعات عنيفة. لم تعد العوائل كما كانت مترابطة وإنما منقسمة على ذاتها، كما لم تعد مكانة العائلة منبثقة من تمسكها بالقيم والأخلاق وحسن السير والسمعة، وإنما من قدرة شبابها على امتلاك المال والسلاح، يجعلهم ينخرطون فى أعمال عنيفة، أكثر من كسب المكانة بالحكمة والأخلاق والحفاظ على القيم.
بالطبع لا يجب أن نغفل دور الشرطة هنا، والتى تغض الطرف عمن يخالف القانون مقابل الحصول على رشاوى، أو حتى رعاية بعض الأسر التى تحمل السلاح وتوغل فى العنف والإجرام لقيامها بدور متعاون مع الشرطة فى ضبط الأمن، وحراسة التوازن الريفى، وهذا أمر خطير لأن الأسر المتعاونة مع الشرطة تشعر بأنها مسنودة، ويمكن أن تنتهك القانون بدون رادع ولا زاجر، وهو ما قد يقود إلى مواجهات مع عائلات أخرى تشعر بالغبن والغضب والظلم وغياب العدالة. فى هذا السياق يمكننا فهم ما جرى بين الهلايلة العرب (بنوهلال)، وبين النوبيين (قبيلة دابود)، فى منطقة السيل الريفى بمدينة أسوان، والتى قادت إلى عدد مخيف من القتلى 23 قتيلا، فالطلاب الذين عاكسوا البنات، هم من كانوا السبب المفجر للمشكلة، ثم هم من كتب عبارات مسيئة فى مواجهة القبيلة الأخرى، وتحولت وسائط التواصل الاجتماعى إلى أداة للاحتراب الداخلى والدعوة للتجمع والتحرك للقتل، وهو ما أدى إلى تفجر أعمال العنف بعد توقفها، ثم عجز الشرطة عن السيطرة على الموقف وتدخل الجيش.
نحن أمام ريف مختلف وعائلات مختلفة، وعلاقات مختلفة فى الريف تحتاج إلى حضور فعال للدولة وخاصة جهاز الشرطة، بحيث يكون جهازا محايدا، هدفه تحقيق العدالة، وبسط الأمن، والبعد التام عن أية تحيزات أو أية اعتبارات لقوة العائلات لعلاقتها بالدولة، أو أحزابها، أو النافذين من أقاربها داخل مؤسساتها البيروقراطية، يبدو لى أن عجز الشرطة عن حل المشكلة يرجع إلى أنها لم تكن طرفاً محايداً ونزيها، ومن ثم لم تستطع أن تكون موضع ثقة للطرفين لحل المشكلات. إن حضور الدولة المصرية فى الريف عبر أجهزة خدمتها فى التعليم والصحة والمواصلات والخدمات الزراعية للفلاحين، وفى الدعاة والخطباء الموقعين عن رب العالمين، هو جسر لحصار الجريمة، كما أن إعادة هيكلة الشرطة لعلاقتها بالريف الجديد، والقائمة على الحياد والنزاهة والتواصل مع قوى المجتمع الأهلى ومشايخه، هو الوسيلة التى تحول دون هبوب توترات عائلية وقبلية فى مجتمعات تعج بالسلاح والتوتر والغضب، نريد دولة حديثة لمواجهة ريف ما بعد الحداثة.