فى الإسكندرية وعلى مدى يومين خلال الأسبوع الفائت، كان العالم العربى هدفا لنداء الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية، وكان المنادون مجموعة من المثقفين -هكذا سموا أنفسهم- قدموا من سوريا ولبنان والأردن والسعودية والبحرين واليمن والإمارات ومصر والعراق وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ليقدم بعضهم أوراقا عن الأوضاع فى بلاده ويترأس بعضهم جلسات المؤتمر، ويناقش آخرون ما تم عرضه، وربما زادوا عليه قليلا واكتفى غيرهم بالصمت والمراقبة!
ذلك هو الوصف التقليدى لشكل المؤتمرات والندوات، التى تنتظم فى عواصم عربية منذ زمن طويل، خاصة أن الموضوعات لم تختلف تقريبا منذ عقود، وربما لم يختلف الأشخاص اللهم فى تغير الانحيازات والمواقف لأننى شخصيا -وأعوذ بالله من أنا- عرفت بعضهم وهم يشيدون ويسبحون بالقادة والنظم التى بادت بعد الحراكات السياسية -ثورات أو انتفاضات سمها كما شئت- التى حدثت فى غير دولة عربية.
وكما يقول الحكماء: «على المرء أن يسعى وليس عليه إدراك المنى»، فإن مكتبة الإسكندرية والقائمين على أنشطتها يؤدون مهمتهم فيما يعتقدون أنه السبيل الصحيح لتحقيق الأهداف التى يتمناها كل إنسان لوطنه، ولكن الملاحظ أنه لا مكتبة الإسكندرية ولا مركز دراسات الوحدة العربية من قبلها ولا المؤتمران القومى والقومى الإسلامى ولا مراكز البحث المنتشرة فى ربوع البلاد العربية ويصعب حصرها، ومعها بعض المؤسسات الإعلامية التى تقيم ندوات ومؤتمرات، استطاعت أن تحرز تغيرا كيفيا فى طريقة تفكير ما يسمى بالنخب المثقفة، وبالتالى لم تسهم فى إحداث تغيرات كيفية إيجابية فى أنماط تفكير ومسلكيات القطاعات الجماهيرية الواسعة، وهنا أعتقد أنه يتعين على كل هذه الجهات أن تسأل نفسها لماذا لم تستطع إنجاز المهام التى أوكلتها لنفسها بنفسها، وأنفقت عليها جهدا ووقتا ومالا بغير حدود؟ بل إن الأكثر فداحة هو أن مسار الواقع العربى فى الآونة الراهنة يشير إلى أنه يسير على إيقاعات مغايرة تكاد تكون نقيض الذى أرادته تلك الجهات.
إن السؤال الآخر الذى يفرض نفسه على الجميع، أى تلك الجهات وتلك النخب التى تحتشد بأعداد غفيرة كل مرة، هو كيف نستطيع أن نحدد المصادر أو الجهات التى تتحكم فى مسار الواقع العربى؟ وكيف وصلت به إلى التقسيم والتفتيت على كافة المستويات، أى جغرافيا وجهويا ودينيا وطائفيا وعرقيا بل وأيضا داخل الفئة الاجتماعية أو «الطبقة» الواحدة؟!
وأعود إلى مؤتمر العالم العربى الذى انعقد، كما أسلفت، بالإسكندرية الأسبوع الفائت لأذكر أن من بين مفارقاته وصول الاختلاف على المسمى نفسه أى هل هو عالم عربى أم وطن عربى؟ إلى طلب التصويت، وكانت الأيادى المرفوعة المؤيدة لأنه عالم عربى وليس وطنا عربيا أكثر بذراعين أو ثلاث، وكان مضحكا بالنسبة لى على الأقل أن تخضع معطيات الجغرافيا والتاريخ والحضارة والثقافة، وهى معطيات تكاد تصل إلى الثوابت الراسخة للتصويت داخل قاعة يشغلها أقل من مائة إنسان، الأمر الذى ذكرنى بالنكتة القديمة التى تقول: إن مواطنا سودانيا كان يحضر مؤتمرا عن مصير مصر والسودان عند مطلع الخمسينيات وكان الرجل وحدويا اتحاديا حتى العظم ووقف يهتف بحماس شديد: مصر والسودان حتة واحدة! وما إن هدأ انفعاله قليلا وجفف عرقه إذا به يلاحظ أن يده خالية من الساعة.. أى أنه تعرض للنشل والسرقة.. فوقف عن فوره وهتف بحدة أكبر: مصر والسودان ستين حتة!.. وحتى اللحظة فإننى لا أعرف ما الذى تعرضت له الأستاذة أمينة شفيق، التى كادت تقف وتهتف أنه عالم عربى وليس وطنا عربيا! لأنها كانت من حضور المؤتمر وكانت رائدة كعادتها فى توسيع دوائر الانتقاد، لأن البعض كان يتحدث عن دور مبارك فى تجريف الحياة السياسية، وبادرت هى إلى بحبحة المدى الزمنى، فأكدت أن التجريف قام به جمال عبدالناصر وثورة يوليو.. ومازحتها بدورى عن حجم الجاروف الذى استخدمه عبدالناصر فى العملية. لقد استغرق الحضور المثقف والمسيس فى التفاصيل التى بدت ميكروسكوبية أحيانا ومعزولة عن سياقها التاريخى أحيانا أخرى، ومفتقدة لأية قرون استشعار تحاول تلمس المستقبل.. وفى ظنى أن ذلك كان طبيعيا لأن من يفتقد القدرة على فهم السياقات التاريخية وجذور الحاضر فيها، يفتقد بالتالى القدرة على تبين آفاق المستقبل ومسار الحاضر إليه.
ولقد ظللت صامتا حتى آخر نصف ساعة، وهى من المرات النادرة التى أمارس فيها فضيلة الصمت والاستماع والاستمتاع بمراقبة الآخر بدقة وصبر، وعندما تداخلت أى طلبت مداخلة ذهبت إلى أن «الديالوج» أو التفاعل الذى قد يتصاعد ليبدو انتفاضات وثورات ليس وليد القرن الحادى والعشرين، وإنما هو ممتد منذ القرن الثامن عشر، وأن احتدام الصراع بين الذين يسمون متأسلمين وبين بقية الاتجاهات هو حلقة من حلقات صراع بين مشروعين، أحدهما نقلى يقدس المتون ويكتفى بشرحها فى الهوامش أو الحواشى، والآخر عقلى يعرف للمتون حقها، ولكنه لا يتوحد بها وينقدها وقد يفضل القطيعة أحيانا مع مناهجها.. وشرحت مسار ذلك الصراع حتى الوقت الراهن!
ثم إننى التفت إلى أمر أظنه يساعد على تفسير ما جرى فى الدول العربية، التى شهدت ما يسمى بالربيع العربى، وهى تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وإلى حد ما البحرين، وجاءت الالتفاتة من وحى الجلسة ذاتها وقلت: إننا نلاحظ أن هناك ذروة حراك سياسى اجتماعى ذى أبعاد اقتصادية شهدتها مصر عام 1977 التى أسماها السادات انتفاضة الحرامية، ثم حدث انقطاع طويل نسبيا حتى حدثت موجة 25 يناير 2011، وهى الفترة التى شهدت من 1977 تدفقا للعمالة المصرية وخاصة الطبقة الوسطى التى تكونت وتعاظمت فى الخمسينيات والستينيات على بلاد النفط العربية، وبدأ السكون السياسى والاجتماعى فى مصر -كحالة واضحة أعيش فيها- وبدأ سلوك المصريين وتفكيرهم يتعرض للتغيير، إذ أصبح استهلاكيا واستعراضيا وتدفق «الكاش» النقدى ليغرق مصر بدون وجود أصول إنتاجية، وحدثت طفرات فى أسعار الأراضى والعقارات، وحلت أفكار الخلاص الفردى محل أفكار الخلاص النهضوى المجتمعى الشامل، مثلما كان الأمر فى حقبتى الخمسينيات والستينيات وإلى تحرير الأرض فى أكتوبر 1973!
ولما اتجهت دول النفط العربية إلى تقليص عدد الوافدين العرب بدعاوى مختلفة منها الاتجاه للتوطين، ومنها تلافى المتاعب التى يسببها الوافدون العرب، إضافة إلى التضييق على شرائح معينة من الوافدين بحرمانهم من خدمات كانت مجانية أو شبه مجانية كتعليم الأولاد والخدمات الصحية، ثم جرى ما جرى فى العراق، عادت قطاعات كبيرة من العمالة المصرية إلى وطنها وقد ضاقت فرص الحياة الكريمة فيه!!
فإذا أضفنا تأثر قطاعات من العمالة المصرية بالأفكار المذهبية المنتشرة فى بعض مناطق النفط «المذهب الوهابى والسلفية بوجه عام» وعودتهم مقتنعين بها وتحولهم إلى مبشرين بما تتضمنه، فهنا ندرك حجم التأثير والتأثر بين أقطار الوطن العربى تماما، مثلما كان التأثير والتأثر جراء الدور المصرى القومى التحررى فى حقب سابقة!
وقد أتيت على ذكر تأثر حسن البنا بتجربة الملك عبدالعزيز وحركة الإخوان فى السعودية، وهو الاسم الذى اختاره محمد بن عبدالوهاب لجماعته، بل واختيار السيفين المتقاطعين رمزا قائما على الراية أو العلم هناك وعند الإخوان، واستطردت بسرعة لأذكر ما اجتهدت فى البحث عنه عن أصل حكاية السيفين، وما إن أشرت إلى الكنيسة فى أوروبا العصور الوسطى حتى هب أحدهم صائحا بنقطة نظام معترضا ومكذبا لما أقول، وبدورى تحديته وأشرت إلى إنجيل لوقا، ولم يقتنع الزميل الذى قال عن نفسه إنه مسؤول كبير فى مجلس كنائس الشرق الأوسط!! وهنا تجلت قدرة التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات إذ فتحت الهاتف المحمول، وعبر البحث فى «جوجل» عن إنجيل لوقا، وجدت ما أبحث عنه وهو موجود فى الإصحاح 22 الآية 38 من إنجيل لوقا.. وصمت الزميل وتعجب آخرون!.. وربما يكون للحديث عن مؤتمرات المثقفين العرب بقية!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة