نواصل اليوم شهادة د. محمود جامع على عصره.. تلك الشهادة الثرية التى أزاحت الكثير والكثير من غامض الأحداث فى التاريخ المصرى الحديث.. خاصة فى نهايات الأربعينيات، فضلاًعن الخمسينيات والستينيات والسبعينيات.
ولعل أهم شهادة للدكتور محمود جامع، هى شهادته على الرئيس الراحل أنور السادات وعهده الملىء بالأحداث الجسام، والمفاجآت التاريخية الخطيرة.. وكيف بدأت علاقته بالرئيس السادات، وكيف تطورت.. وكيف ضحك الرئيس السادات – داهية عصره- على مراكز القوى، وعلى الاتحاد السوفيتى، وعلى إسرائيل وأمريكا، بل وعلى عبدالناصر نفسه، وذلك فى سابقة فريدة فى التاريخ المصرى الحديث.
والآن نبدأ مع د. جامع شهادته لنسأله.. كيف بدأت علاقته بالرئيس السادات.. فيجيب قائلا ً:
بدأت هذه العلاقة قديماً فى الثلاثينيات والأربعينيات من خلال أسرتى.. فقد كان جدى عمدة القرية التى كانت تعيش فيها أسرة السادات.. وتركتها بعد ذلك لبعض ظروفها الخاصة إلى قرية صغيرة مجاورة لقريتنا اسمها «ميت أبوالكوم».
وحينما هرب السادات أيام قضية أمين عثمان الشهيرة، كان جدى ممن أكرمه، وآواه فترة.. وكان جدى قوياً وشهماً.
فلما قبض علىّ عام 1954 م ذهبت أمى إلى السادات، وكان وقتها عضو مجلس قيادة الثورة، وقد تكرم بالوساطة للإفراج عنى رداً لجميل جدى السابق.
ولما خرجت من السجن قال لى السادات: تعال اعمل معى فى الاتحاد الاشتراكى.. فعملت معه فيه، وفى مجلس الأمة ثم التنظيم الطليعى.
وهكذا انتقل د. محمود جامع من عضو بالتنظيم الخاص للإخوان إلى عضو بالتنظيم الطليعى أيام عبدالناصر.. وهذا الأمر تكرر مع كثيرين فى هذا العصر.. ولما سألته كيف عادت علاقته بالسادات إلى الاقتراب مرة أخرى، حينما كان نائباً للرئيس أجاب:
أصيب السادات حينما كان نائباً للرئيس بجلطة فى القلب.. وكان يعالجه العالم الكبير د. محمد عطية طبيب القلب الشهير، وطبيب عبدالناصر شخصياً.
وكان السادات يحب أن يختلى بنفسه.. فمكث معظم فترة المرض فى قريته فى «ميت أبوالكوم».. وكان يحبنى ويأنس بعشرتى.. فقال لى:
«يا محمود تعال امكث معى فى «ميت أبوالكوم»، حتى تتابع مع الأطباء حالتى.. وتخفف عنى».. فأجبته على الفور، ومكثت معه ثلاثة أشهر كاملة لم نفترق خلالها.. وكانت فترة جميلة جدا ً.. وخاصة أن السادات رحمه الله كان خفيف الظل، حلو الحديث، وحسن العشرة.. وكان وقتها لا يثق فى أحد.. ولا يطمئن للكثيرين ممن حوله.. وكان ذلك فى أواخر الستينيات.. وهذه الفترة بالذات هى التى وثقت علاقتى جداً به.
وقد رافق د. جامع السادات نائب الرئيس جمال عبدالناصر وقتها فى رحلات كثيرة، أهمها الرحلة إلى سوريا، بعد نكسة 5 يونيه 1967.. وعن هذه الرحلة يقول د. جامع:
هذه الزيارة لا أنساها أبدا ً.. فقد قال لى السادات يوماً:
تعالى يا محمود نروح سوريا مع بعضنا البعض.
فقلت له: ماشى.. وذهبت معه.. وكان معنا فى الطائرة الرئيس الفلسطينى السابق ياسر عرفات رحمه الله.. وحسن صبرى الخولى.
وهناك أخذنى السادات من يدى، وقال تعال نتفرج على الجولان.. وهناك قال لى: «يا محمود الجيش السورى فى الجولان فى 5 يونيه سنة 1967 لم يطلق طلقة واحدة على اليهود.. والجولان بيعت يا محمود لليهود.. لقد باعوها بـ10 ملايين دولار».
وأخطر ما فى شهادات د. جامع على حياة السادات، ما نقله عن رأى السادات رحمه الله فى حزب البعث والبعثيين.. فيا ترى ما هى هذه الشهادة؟.
لقد كان السادات يكره البعثيين، ولا يثق فيهم.. وقال لى ونحن فى سوريا: أقول لك حاجة يا محمود: اليهود أرحم من البعثيين.
وعندما ذكرت هذه القصة لأول مرة فى الصحافة، هاجت وماجت الدنيا على، وكذبنى البعض وشنعوا بى.. ولكن الحمد لله أن هذه الرواية كان لها شهود آخرون؟.. منهم أ. أنيس منصور الذى كتب مقالاً أيدنى فيه.. وقال كلام د. محمود جامع صحيح %100.. وقد أخبرنى الملك فيصل رحمه الله بنفس هذا الكلام.
إذن ما قاله لى السادات قاله أيضاً للملك فيصل.. وكلاهما كان مقرباً جداً من أنيس منصور.. وعموماً هذه شهادتى، ومن يريد ألا يأخذ بها أو يردها فهو حر.
فالجولان لا يمكن اقتحامها إلا بخيانة.. لأنها جبال مرتفعة، يستطيع أضعف مدافع عنها أن يكبد المهاجم خسائر فادحة بسهولة.
وكان السادات يكره الاتحاد السوفيتى أيضاً وله مواقف غريبة وطريفة معهم، حيث يحكى د. جامع أحدها قائلا ً:
حدث موقف طريف وعجيب أثناء فترة مرض السادات بالجلطة وهو نائب رئيس.
ففى يوم من الأيام جاءه تليفون، وهو مريض فى ميت أبوالكوم من السفارة السوفيتية بالقاهرة.. وكان المتحدث هو السفير السوفيتى الذى أراد أن يطمئن على صحة نائب الرئيس، ويريد زيارته وعيادته.
فقال له السادات: مرحباً بك.
فقلت له: السوفيت يسألون عنك ما هذا؟.. إنهم يكرهونك ويعرفون إنك لا تحبهم وتحب أمريكا.
فقال السادات بدهاء:
إنه ليس حباً فى يا محمود.. ولكن عبدالناصر مريض مرضاً شديداً وأيامه معدودة.. وأنا نائب الرئيس.. وهم يريدون أن يكتبوا تقريراً عن صحتى.. فالسفير يريد أن يرى بدقه قدرتى وحيويتى.. أى الـ«fitness».
وكان السادات وقتها مريضاً جدا.. ولكنه نشط ولبس بدلة فاخرة.. وجلس فى منتهى اللياقة.. ولما جاء السفير السوفيتى أحضر له الفطير المشلتت والجبنة القديمة، فأكل منه كثيراً جداً.. واطمئن أن السادات بصحة جيدة.. فلما غادرنا عاد السادات فوراً إلى السرير.
والغريب أنه بعد عدة أيام جاءت رسالة للسادات من رئاسة الجمهورية تبلغه أن السفير السوفيتى الذى كان عنده مات بالسكتة القلبية.
والأغرب منه أن السادات ظل يفكر ويخمن ويقول لى:
يا ترى يا محمود السفير كتب التقرير قبل ما يموت.. أم لا؟
ولما سألت د. جامع عن تحليله لشخصية الرئيس السادات، فإذا به يفاجئنى بتحليل دقيق ومحكم لم يسبقه إليه أحد حيث قال عنه:
الرئيس السادات شخصية مركبة من خلطة غريبة، ولا يستطيع أحد حصر شخصيته فى نوع (class) معين.. ولكنها مزيج من عدة شخصيات كالآتى:-
أولاً: الرجل الفلاح بطبعه: وذلك انعكس على شخصيته فى حب المجاملة للآخرين.. ومساعدة الفقراء.. والسؤال عن المريض.. والوفاء لمن أسدى له الجميل.
ثانياًَ: الممثل القدير: فقد كان أشبه بالممثل الذى لا يعجزه لعب أى دور.. أو تقمص أى شخصية.. فهو فى الاتحاد الاشتراكى اشتراكى.. وهو مع عبدالناصر ناصرى.. وهو قبل الثورة يساند الحرس الحديدى.. وهكذا.
ثالثاً: لا يحمل حقداً على أحد: فقد يغضب السادات من البعض غضباً شديداً، وينفعل انفعالاً شديداً.. ولكنه يصفو سريعاً.. ويفىء إلى نفسه سريعاً.. فهو شديد الغضب سريع الهدوء والصفاء.
رابعاً: الدهاء والذكاء السياسى: فقد دخل فى تنظيمات سياسية كثيرة وأحزاب سياسية رسمية وغير رسمية.. ودخل مستنقع السياسة منذ صغره.. ولذا فقد كان محنكاً فى السياسة.. لأنه منذ شبابه وهو يعمل فى السياسة.
خامساً: يحب التنظيمات السرية: فمن الخصائص العجيبة للسادات أنه كان يهوى التنظيمات السرية.. ويكتم أسراره وما ينتويه عن الآخرين دائماً.. وقد يقول لهذا كلاما، وللآخر كلاما مناقضا له.. وللثالث كلاما مناقضا لذلك كله.. وكان يهوى هذه الأشياء، وكانت له فى بعض الأحيان شخصية تآمرية فظيعة.. وكان له دهاء فظيع.. ولكن كان يغلب عليها فى كثير من الأحيان طبعه الطيب.
سادساً: يحب التدين: كان السادات يحب الدين بصدق، رغم كل الصفات السابقة.. وكان مواظباً على الصلاة والاستماع للقرآن قبل وبعد الرئاسة.
فلما قلت له: إنها خلطة عجيبة فعلا.ً. وقد تبدو متناقضة، وكيف تجتمع فى إنسان واحد.. قال د. جامع:
قد تراها متناقضة.. ولكنها هى شخصيته الحقيقية.. وكان يستطيع توظيف كل رافد من شخصيته فى الوقت المناسب، وفى المكان المناسب بذكاء ودهاء منقطع النظير.. وقد أدرك الجميع بعد موته بسنوات، أنه كان أذكى بكثير من عبدالناصر.. وأكثر منه فى الدهاء السياسى، ولما سألته عن أهم صفة فى شخصية الرئيس السادات، أجاب على الفور:
أهم صفة فى الرئيس السادات رحمه الله هى الدهاء.. والقدرة على التخلص من المواقف الصعبة.. فقد استطاع السادات أن يخدع عبدالناصر.. وكان أكثر دهاءً منه.. كما استطاع أن يخدع ويهزم مراكز القوى.. رغم أنهم كانوا أكثر منه قوة وبأساً وجبروتاً وسلطة، كما استطاع أن يخدع الاتحاد السوفيتى بجبروته، ويحصل منه على أحدث الأسلحة المتطورة.. والتى مكنته من خوض حرب 1973م والانتصار فيها.. وتحقيق أول نصر مصرى عربى إسلامى على إسرائيل.
كما استطاع أن يخدع إسرائيل خداعاً استراتيجياً وتكتيكياً كاملاً وبارعاً وفاجأها مفاجأة تامة بالحرب.. فى الوقت الذى كانت تظن فيه أنه أبعد الناس عن القيام بهذه المغامرة.
فالدهاء والذكاء أهم مفتاح لشخصية الرئيس السادات الذى كان يستطيع أن يصبر طويلاً على فريسته حتى تسقط وحدها.. أو تسقط هى نفسها من تلقاء نفسها.. أو تنزاح من طريقه.. أو يضطر هو لافتراسها بعد وقوعها فى سلسلة متشابكة من الأخطاء القاتلة، ولما استغربت من كيفية خداع السادات لعبدالناصر الذى كان ذكياً وداهية من الدواهى أيضاً قال د. جامع:
لقد قلت لك إن الوحيد فى مجلس قيادة الثورة الذى قرأ شخصية عبدالناصر مبكراً هو السادات.. وأيقن أن عبدالناصر سيتخلص من كل زملائه تدريجيا ً
فبادر السادات عبدالناصر بقوله:
يا ريس أنا سأسافر للإسكندرية.. وصوتى معك فى المجلس.. فلم يدخل فى صراعات معه أو مع من حوله.. أو مع أحد من زملائه على الإطلاق.. ولذلك ظل فى السلطة حتى وصل إلى نائب الرئيس.. وهو الوحيد من زملاء عبدالناصر الذى وصل لهذا المنصب.. وذلك بالرغم من كراهية عبدالناصر له.