لا أدرى فى أى لحظة بالضبط ترسخ فى وعى النخبة هذا الانسحاق المريض تجاه ما يكتب فى الصحف الغربية الشهيرة من تعليقات ومقالات ذات صلة بالشأن العربى والمصرى، يكتب الصحفى هناك مذيلا اسمه بالمتخصص فى الشأن المصرى أو السورى أو السعودى، فيتلقف النشطاء والقراء والسياسيون فى هذا البلد العربى أو ذاك ما يكتبه كأمر مسلم به، يستخدمونه كحجة فى صراعهم السياسى والأيديولوجى، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال البرىء: لماذا كتب هذا الكاتب الصحفى ما كتب عن أمور بلادنا؟ وهل هو محض روبوت صحفى ينقل الحقيقة الكاملة المنعكسة على ذهنه الفوتوغرافى وفق منهج الاستقصاء الصحفى الذى تعلمه فى بلاده، أم ينقل ويصيغ ويضبط بوصلة كلماته وفق انحياز سياسى، أو انحياز صحفى وسياسة تحريرية لصحيفته، أو انحياز عنصرى، أو دينى أو حتى تعبيرا عن أهداف لجهاز فى بلده البعيد وراء البحار؟
هذا السياق يجرنا جرا إلى علاقة الغرب الاستعمارى كله بالشرق الغنى المستهدف والمستعمر منذ عقود، وكيف تحولت هذه العلاقة على مر السنين واكتسبت مسميات متعددة من الاستعمار العسكرى إلى الاستعمار السياسى والاستعمار الاقتصادى والثقافى، إلا أنها لم تتزحزح عن مكانها كعلاقة تبعية بغيضة لها آلياتها الراسخة فى الذهنية الغربية ووجوهها المتغيرة التى لا ترى أيا من البلاد العربية بل والإسلامية إلا عبيدا لإحسانات الغرب ومزارع وباحات خلفية لمدنياتها الحديثة!
هناك مثالان واضحان كبيران فى هذا الاتجاه، الأول برنارد لويس الذى قاد الغرب كله بقيادته للولايات المتحدة فى تصميم العدو الجديد للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، فكان اختياره باستبدال الإسلام والمسلمين بالشيوعية والاتحاد السوفيتى، أو ما سماه العدو الأخضر بديلا عن العدو الأحمر.
ومنذ دشن برنارد لويس أطروحاته الأولى عن الإسلام والمسلمين والشرق الأوسط طرح إطارا أيديولوجيا يربط بين الإسلام والإرهاب وبين المسلمين والإرهابيين ومنح الحكومات الأمريكية والغربية المتتابعة غطاءً أخلاقيا براقا ليس فقط للتدخل فى البلاد الإسلامية ومن ضمنها طبعا الشرق الأوسط كله، بل منحها غطاءً لقتل المسلمين والعرب دون حدود، معتبرا أن الصدام بين الإسلام والحداثة بين الغرب والعالم الإسلامى والعربى أمر حتمى، وكتبه على سبيل المثال «العرب فى التاريخ» والصدام بين الإسلام والحداثة فى الشرق الأوسط والإرهاب غير المقدس و«أزمة الإسلام» منحت المخابرات الأمريكية حدودا واسعة لتصميم جماعات إرهابية شديدة التطرف لتشويه صورة الإسلام من السماحة إلى التطرف.
وفى سبيل ذلك عرف العالم «القاعدة» و«بوكرحرام» و«داعش» و«طالبان» و«جبهة النصرة» وعشرات الجماعات المتطرفة فى باكستان وأفغانستان وعديد من البلاد الإسلامية الأخرى، لتتصدر صورة العنف والقتل والدم المراق والإعدامات البشعة للأبرياء صورة الإسلام بدلا من الصورة القديمة السمحة التى فتح بها التجار البلاد الوثنية بدون سلاح، كما منح الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن الفرصة لغزو ما يريد من البلاد العربية والإسلامية وضرب أى مكان فى العالم بزعم مواجهة الإرهاب الإسلامى!
أما روبرت فيسك الكاتب الشهير فى «الإندبندنت» البريطانية، فيرفع شعار الديمقراطية عاليا ومن خلفه ينصب منصة إطلاق صواريخ لها بريق صنع فى بريطانيا.
كتب فيسك كثيرا عن الربيع العربى وعن الثورات فى مصر وتونس وليبيا وفى البداية نقل انطباعات وقدم تحليلات منطقية عن الثورات العربية، وتدريجيا تطابق خطابه مع كبار الكتاب المعبرين عن جماعة الإخوان فى الداخل والخارج، احتفاء غير عادى بقناة الجزيرة وما يصدر عنها، استضافة فهمى هويدى وجروب «مفكرون» الداعم للتنظيم الدولى للإخوان على صفحته «فيس بوك» ومع الوقت والتغييرات الجذرية للربيع العربى، ومع انكشاف المخطط المشترك بين الناتو والإخوان والبيت الأبيض لإعادة تخطيط الشرق الأوسط كله، لم يفتح فيسك فمه بكلمة تدعم اختيارات الشعوب العربية، بل وقف يبتهل ويتضرع لصنم الديمقراطية الذى اخترعه أجداده، يذبح الكلمات على قدميه ويطلق الصواريخ على كل من تسول له نفسه تجاهله باعتباره صيغة، مجرد صيغة للحكم وليس أمرا سماويا مفروضا!
يستهين فيسك بإرادة الشعب فى 30 يونيو، وينحاز لخطاب الإخوان المتباكى على الديمقراطية والشرعية بينما يقتلون الناس فى الشوارع بالقنابل والرصاص ويعتدون على مؤسسات الدولة، يتعامى فيسك عن كل ذلك وعن الإرهاب الذى عمل ويعمل بتمويل من بلاده على إسقاط الدولة فى مصر ويرفع شعار لا للديكتاتورية، دون أن يسأل نفسه أى سيد تخدم كلماتى وعن أى شعار أدافع؟!
إن آلهة العجوة من الكتاب والمفكرين الغربيين يجب أن تسقط، ويجب أن نحرر عقولنا من الأغلال التى راكمتها عهود من الاستشراق والاستعمار وأن ننقب عن الأهداف الخفية والغايات النهائية المتوارية وراء الكلمات عندما تتعلق بمصائر أوطاننا!