تتعدد تمنيات الناس بتعدد ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية وبتنوع انتماءاتهم الفكرية والسياسية، وباختلاف ثقافاتهم وتفاوت مدى طموحاتهم، وقد درجنا على أن نسمى هذه التمنيات بالأحلام واعتدنا أن نقول: أحلم بكذا، وكذا لى ولأولادى ولوطنى، وربما كان استخدام كلمة «حلم» مرتبطا بما يراه النائم أثناء نومه أى ما ليس واقعا معيشا، مع أن الأصل فى اللغة أن تطلق كلمة «رؤية» على ما يراه النائم ويأتى صادقا يحمل الخير، وتطلق كلمة «حلم» على ما يراه النائم ويأتى فاسدا وشريرا، حسبما يقول ابن منظور فى لسان العرب، عن نفسى فقد مررت بمراحل عشت فيها ظروفا فرضت أن تكون أمنياتى أو أحلامى مرتبطة بتلك الظروف.. ولا أريد أن أستطرد وأحكى عن أيام سحيقة فى عمرى تمنيت فيها أن تكون زجاجة الليمونادة أو الكوكاكولا كبيرة جداً حتى تروى العطش وتجلب المتعة.. فلما تحقق الحلم وصارت الزجاجات بحجم اللتر واللترين، جاء مرض السكرى ومرض الضغط وزادت المعلومات عن خطورة هذه المشروبات، فكان أن تبدد الحلم وصارت العين تنظر إلى اللترات المرصوصة فى باب الثلاجة بحسرة ولا تجرؤ اليد على أن تمتد إليها.. وقل مثل ذلك عن مطاعم ومشارب بغير حصر تمنيناها زمن الضيق والعسر، فلما جاء الانفراج واليسر صار الأمر مختلفا، ومن مرحلة إلى مرحلة حتى صارت أمنيتى وحلمى أن أسافر وأن أقتنى النادر من المصادر والمراجع، وألا أقلق على يومى وغدى ولا أمد يدى لأحد.. وقد حدث.
والآن تقف الأمنيات وتتحدد الأحلام بالقاسم المشترك الأعظم الذى وسم حياتى منذ صار عندى وعى ثقافى وسياسى واجتماعى، وأقصد به أن يأخذ الوطن مكانته اللائقة بين الأمم على كل الأصعدة، وقد جاء على كاتب هذه السطور حين من الدهر كان يبذل فيه جهده ويفرغ وسعه العقلى والبدنى والعصبى والمعيشى من أجل تحقيق تلك الأمنية وتجسيد ذلك الحلم، ومازلت عند ما عاهدت ربى ووطنى وأهلى عليه، إلا أن موكب العمر وهو يخترق الزمان وتنعكس حركته على المفاصل والأعصاب لم يترك للمرء سعة من خلق يتحمل بها ما كان يتحمله فى الأيام الخوالى. لقد عشنا وشفنا ما حكى عنه بديع خيرى وغناه ولحنه سيد درويش، شفنا الحرب وشفنا الضرب وشفنا الديناميت بعينينا!.. ليس على جبهة القتال ضد العدو الإغريقى أو الرومانى أو الهكسوسى أو الفرنسى أو الإنجليزى أو الصهيونى، وإنما فى قلب القلب من عاصمة المحروسة وصرنا نتمنى أن يمر اليوم بسلام وأن يعود العيال وكل الناس إلى بيوتهم سالمين، عندئذ هل من التجاوز أن يجاهر عجوز مثلى، فيقول أتمنى أن أجد سبيلا للذهاب إلى غيطنا فى حوض عقر القنطرة الواقع فى زمام قريتنا جناج مركز بسيون غربية.. وأن أجد الجميزة والصفصافة والتوتة على رأس الغيط، وأن يأتى طعام الغداء عيش وجبنة قديمة ومخلل باذنجان وخيار، وأن يكون فى الغيط فول حراتى وسريس وجعضيض وبصل أخضر.. وبعدها كوباية شاى مبروكة أو العروسة مغلية فى البراد الصاج على راكية النار.. وبعدها تمديدة فى ظل تلك الأشجار، ومن ثم النهوض للعمل فى أى حاجة حتى لو كانت تنقية الأرض من الحشائش الضارة!
هل أتجاوز إذا جاهرت بأننى أتمنى أن أعيش لأرى حوارى وأزقة قريتى ممهدة ومرصوفة بالأسفلت وفيها خطوط مجارى سالكة وأسلاك كهرباء واصلة ومواسير مياه عذبة دافقة.. وفيها بدل مركز الشباب اتنين أو تلاتة، وفى كل مركز مكتبة ورقية وأخرى إلكترونية ومزودة بأجهزة كمبيوتر ووصلات للإنترنت وشاشات كبيرة لعرض الأفلام.. وفيها ساحات بها مدرجات تصلح للفرجة على عروض مسرحية وسينمائية وتحتمل أن ينعقد فى منتصفها حلقات للذكر، ينشد فيها المنشدون من سلالة المرحوم الشيخ عبدالشكور شهاب، ويتمايل فيها الذاكرون ميلا شرعيا وميلا حفنيا وميلا رفاعيا وبرهاميا.. وينتشر فى أركانها باعة الحمص وحب العزيز والحلاوة العلف والحمصية والفولية وجوزة الهند واللديدة والطحينية.. ولا مانع من نصبات النشان وضرب المدفع وترابيزات الثلاث ورقات، هل أتجاوز إذا حلمت بقعدات مماثلة لما كانت تنعقد فى «شكمة» الدوار ويدور فيها الحوار حول أحوال البلد والزراعة والقلاعة.
ثم يتجه إلى ابن عربى والحلاج والشعرانى وسيدى عبدالعزيز الدباغ صاحب كتاب الأبريز الذى أوصى جدى لأمى الحاج أحمد الجمال الكبير أن يدفن معه وعندما رحل عام 1942 نسوا وضع الكتاب، فلما جاءت أول مناسبة وانفتح القبر لدفن خالتى السيدة كفنوا الكتاب فى كيس من القطيفة ووسدوا به ما تبقى من رفات جدى!!... وهنا أذكر أننى ظللت أتذكر اسم الأبريز وأبحث عنه ولا أجده حتى اقتنيت الكمبيوتر ودخلت على جوجل وطلبت الكتاب، فإذا به ينزل على الشاشة لأدير الطابعة وأطبعه فى حوالى ألف صفحة وأقرأ أنه للقطب المغربى الصوفى قطب وقته الشيخ عبدالعزيز، أى أنه «الأبريز لسيدى عبدالعزيز»، ومازلت أقرأ فيه بين الحين والحين! هل أتجاوز إذا قلت إننى أتمنى أن أجد الطرق سالكة وآمنة من القاهرة ومن أية مدينة إلى كل أرجاء مصر، فلا قطاع طريق ولا سواقين مبرشمين أو ضاربين بانجو وراكنين بلا أية أضواء أو إشارات على جوانب الطرق، وأتمنى أن أتمكن من الخروج مبكرا ومعى الخريطة الورقية أو الهاتف المفتوح على خرائط الطرق ويكون الانطلاق إلى الواحات البحرية والخارجة والداخلة والصحراء البيضاء وكانيون وسط سيناء وإلى أديرة مصر فى سانت كاترين وأنطونيوس وبولا وإلى عمق أعماق بلدنا شرقا وغربا وجنوبا! وأن يتعلم الناس فى مصر حب قراءة الكتاب المفتوح.. كتاب الطبيعة فيعرفون الجغرافيا والجيولوجيا والآثار والأحياء من طير وحيوان وحشرات.. وبذلك يمتثلون لأوامر ربهم بالتفكر والتعقل والسير فى الأرض والتدبر والقراءة، لأنها كلها أفعال أمر لا تقل وجوبا عن أوامر الشهادتين وإقامة الصلاة والصوم والزكاة والحج.
وبالمناسبة كثيرا ما يراودنى سؤال داخلى أتساءل به مع نفسى لماذا لم تعد القراءة من أركان الإسلام مع أن أول أمر تلقاه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من رب العزة كان اقرأ.. وما أفهمه أن المسلم الذى لا يقرأ هو مخالف لما هو معلوم من الدين بالضرورة؟! هل أتجاوز إذا تمنيت موتة هادئة لا يحتاس فيها العيال بالبحث عن محل الحانوطى الحانوتى ولا متعهد الفراشة ولا يتحملون فوق طاقتهم إذا جلسوا فى مدخل دار المناسبات ليتلقوا العزاء، فإذا بهم يصافحون وجوها هم أكثر من يعلم أنهم وأننى لم نكن نطيق بعضنا البعض، ومن ثم يرنو العيال بأبصارهم إلى داخل الدار فإذا بهم يثرثرون ويضحكون ولا يقيمون وزنا للقرآن الذى يتلى، وأن على الجميع الإنصات لتلاوته مهما كان قبح صوت المقرئ وعلو صوت السماعات الضخمة؟! هل أتجاوز إذا تمنيت أن يختفى من المحروسة ولو لموسم سياسى واحد كل الأفاكين والدجالين والانتهازيين والآكلين على كل الموائد؟! سأتمنى.. وأدعو الله لتحقيق ما أتمناه وأناشدكم أن تقولوا: آمين.