اليوم تحتفل مصر بمرور 50 عاما على تحويل مجرى النيل وبناء السد العالى، الذى يعتبر أعظم بناء هندسى عالمى فى القرن العشرين، ومعجزة هندسية غير مسبوقة لإنشاء واحد من أكبر السدود المائية فى العالم. الأجيال الجديدة لا تعرف الكثير عن قصة بناء السد، فقد رحل معظم البنائيين الأوائل فى السد من المهندسين المصريين والروس، ولم يتبق على قيد الحياة - أطال الله فى عمرهم - سوى القليل، فقد تعرض السد لحملة هجوم ظالم فى السبعينيات والثمانينيات، وسخر نظام ما بعد جمال عبدالناصر أعلامه وأقلام كتبته لمحو إنجازات الزعيم الراحل، وإنجاز شعب وإرادته فى بناء مستقبله، ولكن الزمن وحده كان كفيلا بالرد على كل هؤلاء وطمس كتاباتهم الجائرة، فقد حمى السد مصر من المجاعة والجفاف والغرق مرتين أوثلاثة فى نهاية السبعينيات والثمانينيات، وصمت الكذبة أمام عظمة بناء السد وعضوا من الغيظ أناملهم.
لم يكن تحويل مجرى نهر النيل لبناء السد العالى مجرد تحويل لمياه وترويض جموحها، بل كان تحويلا لمجرى التاريخ فى مصر والعالم، وملحمة بطولية لشعب توحد خلف قيادته وزعامته الوطنية فى مواجهة محاولات الغرب الاستعمارى لكسر إرادته وتحطيم حلمه فى بناء مستقبله وتقرير مصيره. كان السد فى ظل التحديات السياسية والظروف الاقتصادية الصعبة التى تشابه نفس الظروف التى نمر بها الآن تجعل من تحقيق مشروع السد ضربا من الخيال والأوهام، لكن الشعب المصرى خلف زعيمه أراد الحياة وضحى من أجلها، فاستجاب لهما القدر، وانتصرت مصر فى معركة السد، وربما كان هذا الانتصار بداية لمعركة أخرى أشمل وأوسع فى أفريقيا والدول العربية وهى معركة التحرر الوطنى من بقايا الاستعمار القديم، وولادة زعيم حقيقى قاد هذه الأمة فى معركة البناء والاستقلال الوطنى.
معركة بناء السد العالى كانت - وما زالت - نموذجا ومثالا حيا فى التحدى والإرادة والتصميم والقدرة على مواجهة المستحيل، وهو ما تحتاجه مصر فى المرحلة الصعبة الحالية، فالأزمة لم تكن فى مسألة التمويل - 400 مليون دولار - رغم صعوبة الحصول عليه فى ذلك الوقت، لأنه كان رقما كبيرا فى تلك الأيام، لكنها كانت مسألة قرار جرىء وإرادة سياسية حرة لقيادة واعية ورؤية زعيم ودولة وشعب متوحد خلف هدف واحد، فاستنفد كل طاقاته لتحقيق حلمه، وهذا ما نريده الآن.