نتواصل اليوم مجددًا مع شهادة د. محمود جامع على عصره.. ود. محمود جامع رغم تجاوزه الثمانين عامًا فإنه يتمتع بذاكرة حديدية مع ذكاء اجتماعى خارق، فضلاً على تمتعه بالطرفة والنكتة الراقية.
واليوم نستكمل شهادته على عصره، فقد عاصر ملكًا، هو الملك فاروق، وثلاثة رؤساء، هم عبدالناصر والسادات ومبارك.. واليوم بالذات نسجل شهادته على الانتخابات فى عصر الملك فاروق وعبدالناصر والسادات، فقد شهد عصر الملك فاروق وهو فى الجامعة، كما أنه كان مشرفًا على الانتخابات البرلمانية فى الستينيات والسبعينيات، فهل كان هناك تزوير فى مصر أم لا؟، ومنذ متى وكيف بدأ التزوير؟، وما طرق التزوير؟، وما مقارنة نسب التزوير فى الانتخابات فى عصور الحكام المصريين؟
هذه الأسئلة كلها وجهتها منذ سنوات إلى د. محمود جامع، فكانت إجابته كالتالى:
تزوير الانتخابات معروف فى مصر منذ العهد الملكى، لكن كان على نطاق ضيق جدًا، وذلك لوجود الصحافة الحرة، ووجود عدد كبير متنافس من الأحزاب، وتداول هذه الأحزاب للسلطة، فلا يستطيع حزب أن يزور لنفسه ضد الآخر، لأنه سيترك السلطة وسيأتى الآخر إلى السلطة فيفضحه ويحاسبه، لذلك كان التزوير يتم على نطاق ضيق.
ولكن مع بداية عهد الرئيس عبدالناصر ظهرت موضة %99 فى كل الانتخابات والاستفتاءات، وأصبح التزوير فجًا وفظيعًا وبلا حدود، وأصبح البرلمان يسير بالريموت كنترول، وأصبح العمل السياسى هو مجرد ارتزاق فقط.. وعلى فكرة التزوير مستمر فى كل العصور، وقد رأيت بعينى رأسى كيف يتم إخراج وتنفيذ وإنتاج عمليات التزوير فى جميع الانتخابات، وقد رأيت أمثلة صارخة للتزوير يندى لها الجبين.
وحينما سألته عن كيفية تزوير الانتخابات.. أجاب بسرعة:
عملية التزوير بسيطة جدًا، لأن أكثر الشعب المصرى فى الستينيات والسبعينيات كان لا يقبل على الذهاب للتصويت أصلًا، وذلك منذ أن بدأت فى الستينيات موضة %99، حيث أدرك الشعب أن الانتخابات لا جدوى منها، وأن صوته لا قيمة له.
فهذه الموضة «%99» أحدثت أسوأ الآثار النفسية على الإنسان المصرى الذى شعر أن ذهابه للتصويت لن يغير شيئًا من نتيجة الانتخابات، وأنه من الأفضل له أن يستمتع بهذه الإجازة ليستريح من عمله، ويقضى مصالحه وطلبات أسرته التى لم يستطع إنجازها فى الأيام السابقة، وتكررت بين الناس كلمة تنسب لسعد زغلول هى «مفيش فايدة»، كلما جاء موسم الانتخابات، والله أعلم هل قالها سعد زغلول أم لا؟
كما ساعد على ذلك أن ربع الشعب المصرى فقط هو الذى يحمل بطاقات انتخاب، وثلاثة أرباعه لا يحملون بطاقات انتخاب، وهذا الربع لا يذهب نصفه إلى صناديق الاقتراع.. «كان الاقتراع قديمًا ببطاقة الانتخاب وليس بالبطاقة الشخصية كالآن، وأفضل ما تم بعد ثورة 25 يناير هو الاقتراع بالبطاقة الشخصية».
عاودته السؤال مرة أخرى: كلنا يعرف أن المصرى لم يكن يذهب إلى الانتخابات، ولكنى أسألك الآن كيف كان التزوير يتم فعلاً على أرض الواقع فى اللجان؟ وما هى شهادتك الحية على ذلك؟
ذلك أمر بسيط أيضًا، فقبل الانتخابات بيوم أو يومين يتم تجهيز صناديق بديلة عن الصناديق الأصلية، فإذا رسب مرشح الحزب التابع للحكومة مثلاً، يتم استبدال هذا الصندوق بآخر مملوء بالبطاقات المسددة لهذا المرشح، وتقوم لجنة الفرز بفرزه ليفوز هذا المرشح.
قلت له: هل تعطينا مثالاً حيًا على تزوير صارخ عشته بنفسك؟
نعم، كان هناك صحفى شهير فى جريدة الأخبار اسمه رشاد الشبرابخومى، وكان بلدياتى من المنوفية، وقد ترشح لانتخابات مجلس الأمة «أى مجلس الشعب الآن» سنة 1968، وترشح ضده رئيس مجلس إدارة غزل شبين وقتها المرحوم فتحى المدبولى، وكان الأخير يشغل منصب أمين عام الاتحاد الاشتراكى فى محافظة المنوفية، وأصبح بعد ذلك وزيرًا للتجارة والتموين.
وبعد إجراء الانتخابات بينهما فوجئ المرحوم الشبرابخومى أنه لم يحصل على أى صوت حتى فى صناديق قريته التى تحبه حبًا شديدًا، وكان هذا الصحفى ذكيًا وظريفًا جدًا، فذهب إلى المحافظ ورئيس اللجنة المشرفة على الانتخابات فى المنوفية، ومفتش أمن الدولة هناك وقتها وكنت معهم وقتها، وقال لهم جميعًا:
«أين صوتى أنا يا ولاد الكلب.. ولا صوت واحد لى فى الصندوق الذى صوتت فيه أسرتى.. كل عائلتى يكرهوننى ولم ينتخبونى.. قلنا ماشى.. كل أشقائى أنا لم أعطهم من العزبة التى تركها لهم والدهم فكرهونى ولم يعطونى أصواتهم.. قلنا ماشى كذلك.. زوجتى لا تحبنى وتعشق رجلاً آخر ولم تعطنى صوتها.. قلنا ماشى.. فأين صوتى الذى كتبته بيدى ووضعته فى هذا الصندوق.. صوتى يا ولاد الكلب راح فين؟!»، وراح يكرر هذه الكلمة عدة مرات وهو فى منتهى الانفعال.
وماذا قال له المحافظ ومدير الأمن ورئيس لجنة الانتخابات؟
لا شىء على الإطلاق، سكتوا ولم يتكلموا، ولعلهم كانوا يسخرون منه فى قرارة أنفسهم.
وهذه القصة عشتها بنفسى، وعندما قصصتها على السادات، وكان وقتها نائبًا للرئيس، أعجبته كثيرًا، وظل يضحك طويلًا، وقال والله لا بد أن أحكيها لعبدالناصر، وحكاها له فعلًا.
هل تحكى لنا شهادات حية وطريفة أخرى عشتها بنفسك فى الانتخابات؟
كنت مشرفًا على الانتخابات البرلمانية سنة 1976، وكان مرشحًا فيها الاقتصادى الشهير، الدكتور أحمد أبوإسماعيل عن حزب الوفد، فأحضر عددًا كبيرًا من الأوراق المالية فئة خمسة قروش، وقسم كل ورقة منها نصفين، يضع نصفا فى كل صندوق فارغ قبل التصويت، ويجعل النصف الآخر معه، فإذا جاء وقت فرز الصناديق يبحث عن هذا النصف، فإذا وجده اطمأن على سلامة الصندوق.
وهكذا وجد كل أنصاف أوراقه المالية موجودة تمامًا فى الصناديق، ما عدا صندوقا واحدا فقال:
لن أعترف بهذا الصندوق أبدًا.. فقد تم فيه تزوير.
وبعد شد وجذب حذفنا نتيجة هذا الصندوق تمامًا.
قلت له: هذا ذكاء عبقرى يمكن أن يحبط أى تزوير، ويعرف كل مرشح بصناديقه الحقيقية.
قال: أنا أعتبر هذا التصرف هو أذكى تصرف رأيته فى حياتى، وفى كل تاريخ إشرافى على الانتخابات.
ما أطرف قصة لتزوير الانتخابات لا تنمحى من ذاكرتك؟
هناك قصة طريفة حدثت فى الصعيد فى سوهاج أثناء انتخابات مجلس الأمة، وكان رئيس اللجنة من رجال القضاء الشرعى الصالحين، وكان رئيسًا لمحكمة سوهاج، وأثبت فى التقرير النهائى للنتيجة سقوط وزير أمام أحد المرشحين، ثم ذهب إلى منزله بعد إبلاغ النتيجة.
وبعد ساعات فوجئ بأن التليفزيون يعلن نجاح الوزير وسقوط خصمه فى مجلس الأمة، فارتدى الرجل ملابسه بعد منتصف الليل، وذهب إلى المحافظ فى سوهاج وقال له:
هناك خطأ فادح وخطير فى النتيجة، فقد سمعت فى التليفزيون أن الوزير فلان نجح أمام خصمه، وهو فى الحقيقة سقط سقوطًا فادحًا، ولم يكن لهذا القاضى خبرة فى السياسة وألاعيب الساسة، فضحك المحافظ وربت على كتفه ثم قال له: اذهب واطمئن وأكمل نومك.
قلت له: وما رؤيتك وشهادتك للبرلمان فى عهد السادات فى السبعينيات؟
فأجاب: أنا كنت عضو مجلس شورى منتخبا، وحصلت فى الانتخابات على %99، ولم أذهب أنا للإدلاء بصوتى، أى أننى لم أنتخب نفسى.
وقد وجدت أن العمل السياسى أصبح عملية للارتزاق.. لقد وجدت دفترًا للحضور قبل أن أدخل القاعة، ويقف إلى جواره جندى، ووجدت الأعضاء يوقع الحاضر منهم للغائب، ويوقع بعضهم للآخرين، وبعضهم يغيب شهرًا كاملًا وتوقيعه موجود فى دفتر الحضور والانصراف، حتى أن بعض النواب ذهب للعمرة وجاء منها وتوقيعه موجود فى كل هذه الأيام.
ما شهادتك على علاقة النواب بالوزراء؟
كانت مكاتب الوزراء دائمًا مليئة بالنواب، وذلك موجود حتى اليوم من أجل التأشيرات على طلبات الناس، وكذلك مكاتب المحافظين مكتظة بهم.
لقد ترك النواب عملهم الرئيسى، وهو مراقبة ومحاسبة الحكومة، والقيام بوظيفتهم الرئيسية من أجل الوقوف والانتظار ساعات لمقابلة الوزراء والمحافظين.
والسؤال المهم والملح دائمًا فى مصر: لماذا لا تتم مصالح الناس دون واسطة، وتكون هناك قواعد ثابتة لإنجاز مصالح الناس دون هذا التسول البغيض الذى يحول نائب البرلمان من مراقب للسلطة التنفيذية إلى ذليل لها يتسولها لقضاء مصالح أبناء دائرته، أو قضاء مصالحه وأقاربه وحواريه؟.. وهذه السلبيات زادت بنسبة كبيرة وتضخمت تضخمًا شديدًا فى عهد مبارك، فالفساد السياسى ازداد كثيرًا فى عهد مبارك، ولم يستطع أحد أن يوقفه أو حتى يحجمه.
ما شهادتكم على البرلمان المصرى فى الستينيات؟!
مجلس الأمة فى الستينيات كان يدار بالريموت كنترول دون وعى أو تفكير.
فعلى سبيل المثال كان الرئيس عبدالناصر يخطب فى مناسبة خطيرة، وهى يوم الانفصال عن سوريا، وبعد اعتقال المشير عامر وطرده هو ومن معه من سوريا وتسليمهم لمصر، وقف عبدالناصر يخطب فى مجلس الشعب وقال:
«إننى فى صباح هذا اليوم أمرت قوات المظلات والصاعقة المصرية بقيادة جلال هريدى- قائد الصاعقة المصرية الشهير- بالنزول إلى اللاذقية والأراضى السورية لدحر قوات الانفصال، وتحركت هذه القوات فعلاً».
فقام مجلس الأمة عن بكرة أبيه بالتهليل والتصفيق بطريقة هيستيرية، وهم يهتفون بحياة الرئيس.
وعندما سكتوا قال عبدالناصر:
«ولكننى حقنا للدماء رأيت إلغاء هذا القرار والعودة بالقوات». فقام مجلس الأمة بالتصفيق والتهليل والهتاف بحياة الرئيس، والفارق بين الموقفين ثوان معدودة.
وحينما سألته: ألم تعاصر أى انتخابات نزيهة فى حياتك؟
الانتخابات الوحيدة التى كنت مشرفًا عليها وكانت نزيهة، وهذه شهادة للتاريخ، كانت انتخابات حزب مصر عندما كان ممدوح سالم، رحمه الله، رئيسًا للوزراء ومسؤولاً عن الحزب، وكانت فى عام 1976 تقريبًا.
وكنت مسؤولًا عن الانتخابات فى الغربية، وكان ممدوح سالم يشدد علينا أن تكون الانتخابات نزيهة مهما كان الأمر، حتى أن أحد الوزراء سقط فى هذه الانتخابات.
وهل تم اعتماد النتيجة من السادات فى ذلك الوقت رغم سقوط أحد الوزراء؟
عند رفع النتيجة للرئيس السادات طلب منى السيد ممدوح سالم، رئيس الوزراء، والسيد محمد حامد محمود، رئيس الإدارة المحلية، أن أتصل بالناجحين وأطلب منهم الانضمام لحزب مصر بعد أن رفضوا طلب محافظ الغربية أحمد القصبى بالانضمام للحزب، وبعد إصرار منى واتصالات مكثفة معهم وافقوا على الدخول فى الحزب، ودخلت الكشوف للرئيس السادات بأغلبية حزب مصر التابع للسادات وقتها فى الانتخابات، وقد تحول حزب مصر بعدها إلى الحزب الوطنى.
أنا غير راض عن نفسى فى هذا التصرف، وربنا يسامحنى فيه، فأنا الذى أقنعتهم بذلك بعدما فشل فيه محافظ الغربية وقتها.