طبعا سيتذكر القارئ الكريم قصيدة الراحل العظيم أمل دنقل «لا تصالح» لكن القصيدة كانت فى هم وطنى، نحن الآن بإزاء هم اجتماعى وسياسى تختلف حوله الرؤى لمستقبل الوطن بعد ثورة عظيمة فى يناير 2011، حدث لها ما يحدث لكل الثورات من هجوم عليها
ومحاولة التفاف حولها وتشويه ثوارها.. لقد كشفت الثورة عن مجتمع امتلأ حتى العفن بالقوى المنظمة الفاسدة التى استفادت من أوضاع أربعين سنة من الفساد والقمع، ومن ثم فمعركة الثورة لتحقيق أهدافها من حرية وعدالة ليست بالأمر السهل.
لقد قطعت الثورة شوطا كبيرا فى طريقها، وكان أحد أسباب جرأة أعدائها- ولابد أن نعترف بذلك- هو انصراف الشباب عن الرغبة فى الحكم.. من دعوا إلى الثورة وفعلوها انضم لهم الشعب، لكنهم تركوا رجال العهد الماضى يديرون شؤون الحياة، متصورين أنهم سيقدّرون قوة الثورة، ولم يكن الأمر فى حاجة إلا لبعض الوقت للالتفاف عليها بعد أن يتعب الناس من الخروج إلى الشوارع والميادين
لكن هذا الالتفاف لم ينجح كاملا بعد.. لقد كان الإخوان المسلمون أكبر عوامل نجاح هذا الالتفاف حين أوصلتهم الثورة إلى الحكم نكاية فى النظام السابق، ووفقا لتفاهماتهم أيضا مع النظام السابق، لكنهم لم ينجحوا، بل حاولوا أن يكون رجال النظام السابق وطريقته وسيلتهم إلى الانفراد بالحكم.. لم ينتبهوا إلى أن العداء تاريخى بينهم وبين النظام السابق، وأن كل مرة اتحد معهم النظام كان لإبعاد المعارضة الحقيقية عن المشهد
وكونه أطلق لهم العنان للعمل بين الفقراء، غالبية الشعب، فذلك لتتأخر الثورة عليه، لأن خطابهم من أجل الآخرة، ولا مكان للدنيا التى انفرد بها النظام السابق وحده دون الشعب الذى ركضت أغلبيته وراء الآخرة، فتأخرت المعارضة إلا من النخبة التى سرعان ما يتم القضاء عليها، ولم تتجاوز المعارضات النقابية سقف المطالب المهنية المحدودة.
ما علينا من هذا كله، هذه مقدمة سريعة فقط أشير فيها إلى أهم أسباب التجرؤ على الثورة.. نحن الآن فى منعطف طرق جديد، اختار الإخوان الخروج من المشهد بأفعالهم أو بإرهابهم، والمسألة مسألة وقت، لدينا الآن مرشحان يمكن أن نجد عند كل منهما ما يريحنا وما يقلقنا.. القلق الكبير من المشير عبدالفتاح السيسى هو التفاف عناصر كثيرة من النظام القديم حوله، ومن كونه يتحدث عن التنمية ومحاربة الفقر ويهمل الحديث عن الحريات، بل ما يتسرب من أحاديثه كما حدث فى لقائه مع الإعلاميين ينذر بأن الديمقراطية شىء يحتاج إلى وقت.. نفس كلام النظام القديم، دون رؤية لما جرى من شعب حين أغلقت أمامه وسائل التعبير، أو بمعنى أدق حين كان التعبير فى كل الوسائل غير ذى أثر بالحكم فى عهد مبارك أو مرسى
خرج الشعب يمارس الديمقراطية فى الشارع. والقلق الكبير من حمدين صباحى سيكون من الدولة القديمة التى تجرى إلى المشير، ومن ثم لن تتعاون معه، ذلك الذى يقوله الآخرون بأدب أنه ليست لديه خبرة، متجاهلين أن الرئيس لا يحكم وحده، بل تعاونه مؤسسات وهيئات هى التى فى الحقيقة تدير البلاد.
لكن لكل مرشح ميزة صعب أن يغفلها أحد، ولا أرى داعيًا لإغفالها تحت أى تفسير، فالمشير السيسى انضم إلى الشعب فى 30 يونيو فى لحظة طرش فيها الناس من حكم الإخوان! وحمدين له تاريخ طويل من النضال مع الشعب وضد السلطة الجائرة، ليس الأمر إذن كما كان أيام الانتخابات بين أحمد شفيق ومحمد مرسى، وقتها كان يمكن أن تقول بسهولة إن أحمد شفيق لم ينحز للثورة فى أى وقت، بينما السيسى انحاز فى يونيو، وأن مرسى يعبر عن فاشية دينية
بينما حمدين يعبر عن الديمقراطية، ويعرف أنها مفتاح الحياة قبل الأكل والشرب، لذلك لا أرى المقاطعة صائبة، لقد كنت واحدا ممن أبطلوا صوتهم فى انتخابات الإعادة بين شفيق ومرسى، لكنى الآن لن أقاطع للأسباب السابقة.. كما أن المقاطعة الآن لا تفسير وجيهًا ومقنعًا لها، لأن كلًا من المرشحين مهما كانت الظروف حوله سيأخذ قرارات سريعة تجد صدى طيبًا عند الناس، ابتداء من توفير الطعام فى الشوارع عند السيسى للفقراء، إلى إلغاء قانون التظاهر وتعديله والإفراج عن المعتقلين من أصحاب الرأى عند حمدين
ومن ثم ستزداد مساحة المؤيدين لكل منهما بعد نجاحه، ومن ثم سيكون صعبًا تكرار المشهد المهيب الذى جرى مع مرسى بعد عام واحد.. المقاطعة فى انتخابات مرسى وشفيق كان لها معنى، وكان واضحًا أن أيًا منهما لو جاء فلن يبقى أكثر من عام، لأن ما كشفته الثورة من عورات اجتماعية وسياسية رهيب ويحتاج عقلًا جديدًا.. الآن عورات المجتمع معروفة، وتجربة الفشل قائمة، ومن ثم سيكون لأى منهما دور سريع فى درء هذا الفشل
شكلا أو موضوعا، سيكون له أثره فى تأخير الثورة على أى منهما.. لقد نال المقاطعون الشتائم بعد نجاح مرسى، ثم حمد من يشتمونهم الله لانكشاف أمر الإخوان المسلمين بسرعة.. هذه المرة سينسى الناس المقاطعين، سيقف ضد حمدين إذا جاء أصحاب المنافع القديمة كما قلت، لكن من سيرى شيئًا من أهداف الثورة فى العدل والحرية سيكون ضدهم، وسيقف ضد المشير السيسى من يتضرر من غياب الديمقراطية، لكن أيضًا سيكون قطاع كبير من الشعب البسيط راضيا وهو يرى محاولات التخفيف اقتصاديًا عنه
وطبعا قطاع المنتفعين من نظام مبارك.. وفى كل الأحوال لن يستطيع المشير السيسى الذى أغفل الديمقراطية فى حديثه الاستمرار فى هذا الإغفال، وسيخرج عليه قطاع كبير من الفقراء حين يكتشفون أن صبرهم سيطول للحصول على مسكن، أو علاج، أو تعليم، وسينحازون للديمقراطية التى لا يمكن تغييبها، وسيكتشفون أنها الحل الحقيقى الغائب، كما لن يستطيع حمدين بتحقيق الديمقراطية، أو فتح الطريق لها إغفال المطالب الاقتصادية، وتصحيح فكرة الاستثمار ببيع البلد وبرنامجه يقول ذلك.. إذن نسبة التحول الهادئ فى الحياة المصرية أكبر، ومن ثم ستنسى المقاطعة، والأفضل التوجه إلى صناديق الانتخاب ليعرف الناجح أن المعارضة قوية، ولا يكتفى بالقول إنه يحترم من قالوا نعم ومن قالوا لا..
لو حدث تفاوت كبير فى نسبة النجاح سيكون ذلك أول طريق حكم الفرد، ولا تطمئن أن الدستور يمنع ذلك، فسيكون لهذا الفرد القدرة على التأثير فى نتيجة انتخابات مجلس الشعب، وساعتها سلم لى على الدستور الذى يتم الخروج عليه من الآن، ولا تطمئنوا إلى أنه يمكن البدء من جديد كل يوم، فالثالثة تابتة على الجميع.. الثورة وأعدائها.