قبل أيام عشنا عطر الذكرى الخمسين لتحويل مجرى نهر النيل الذى حول مشروع السد العالى إلى حقيقة، الأجيال التى لم تعاصر هذا الحدث تقرأ عنه فى كتب التاريخ، والذين عاشوه مازالوا يتذكرون معركته الباسلة التى تحدت فيها مصر أمريكا والبنك الدولى بعد رفضهما تمويل مشروع بناء السد العالى.
معركة «السد العالى» هى معركة للإرادة الوطنية المصرية، والحديث عنها هذه الأيام يتخطى حدود الأيديولوجيا، ويتخطى مسألة حب أو كره جمال عبدالناصر، لأنها فى الحقيقة كانت معركة الشعب المصرى الذى وقف وراء قائده لأنه صدقه، ووجد فيه طرازا مختلفا عن القيادات التى حكمت مصر والسياسيين الذين احتكروا العملية السياسية قبل ثورة 23 يوليو 1952.
نحن أحوج ما نكون إلى التذكير بكل معاركنا الوطنية الجليلة وهى سلسلة متصلة واحدة تسلم الأخرى، فثورة عرابى هى التى قادت إلى ثورة 1919، والاثنتان قادتا إلى ثورة 23 يوليو 1952، ومعركة السد العالى قادت إلى تأميم قناة السويس، و«تأميم القناة» قاد إلى العدوان الثلاثى من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر عام 1956، ويومها صعد جمال عبدالناصر إلى منبر الجامع الأزهر، وأطلق صيحته الشهيرة: «هنحارب»، وصمدت مصر صمودا أسطوريا لتخرج من هذه المعركة، لتصبح ملهمة لكل حركات التحرر فى المنطقة العربية والدول الإسلامية ودول العالم الثالث، ونتج عنها غروب الشمس عن الإمبراطورية البريطانية التى ظلت قرونا لا تغرب عنها الشمس، أصبحت مصر بعدها رمزا عالميا، ودولة الدور الذى لا يمكن تجاهله من كل الأطراف الدولية المؤثرة وقتئذ.
كانت مصر وقتئذ على موعد مع الأمل والبناء والاستقلال، وكان التحدى كبيرا وصعبا، فحين تبحث مصر عن ذاتها وتخرج من قمقمها تحشد أمريكا وإسرائيل كل الوسائل لإعادتها إلى قمقمها، وهذا ما فعلته مع مشروع جمال عبدالناصر كله، بالوقوف ضد بناء السد العالى وتأميم قناة السويس والقومية العربية، والوقوف ضد التنمية من أجل الفقراء، فأمريكا وإسرائيل لا تريدان أبدا تحديث مصر، لأن التحديث يعنى استدعاء عناصر القوة، وتحويلها إلى واقع مادى ملموس، وهما يريدان مصر ضعيفة حتى تتحقق أهدافهما الخبيثة.
لم يكن عبدالناصر فى معركة السد العالى يريد مجدا شخصيا كما صور أعداؤه، فمجد الحاكم يأتى من قدرته على البناء من أجل شعبه بغالبيته الساحقة من الفقراء الذين كان عبدالناصر رسولهم وملجأهم، ولهذا ما زال يسكن فى القلوب، وما تزال صورته ترتفع فى الميادين وفى بيوت مصر والعرب، وأصبح الآن هو المقياس الذى ينظر من خلاله الشعب المصرى إلى المرشحين فى الانتخابات الرئاسية، عبدالفتاح السيسى وحمدين صباحى، ويحدث ذلك رغم كل حملات الهجوم الضارى ضده منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى وحتى الآن، لكنها لم تنجح فى زعزعة مكانته فى نفوس المصريين وكل الشعوب التى تتطلع لإرادتها الحرة المستقلة. الدروس المستفادة من معركة السد العالى كثيرة، أهمها درس الإرادة الوطنية، فتعاظمها يعنى القوة، والقدرة على الصمود والتحدى، وبالطبع لن يتحقق ذلك إلا بقيادة وطنية تفهم قيمة مصر ودورها وتاريخها، وتفهم أن سر قوة مصر يكمن فى شعبها العظيم.