منذ سنوات قضيت يوما كاملا فى منطقة أرض عزيز عزت للكتابة عن العشوائيات فى القاهرة، إلا أن الألم والحزن اللذين خرجت مضروبا بهما، لم يفارقانى حتى الآن، حتى بعد أن كتبت أكثر من مرة وفى أكثر من مناسبة عن تلك البقعة المنسية تماما، بشر تحت خط الفقر بكثير، أسر لا تعرف معنى لحقوقها الأساسية تعيش مستباحة فى غرف أشبه بالكهوف تحت الأرض، لا يوجد بها دورات مياه ولا مياه نظيفة، إن هى إلا عنابر فى بنايات قديمة، بدروم وعدة أدوار فوقه على طريقة العنابر، طرقة طويلة مظلمة، وغرف متلاصقة لا تتجاوز 5 أمتار على الجانبين، دورة مياه واحدة فى كل دور آخر العنبر وحنفية عمومية للمياه النظيفة!
لكم أن تتخيلوا وضع البنات والسيدات فى دورة مياه عمومية واحدة، ولكم أن تتخيلوا الاستباحة لكل الخصوصيات البشرية، التى يقابلها هؤلاء المواطنون بالانكسار والتسليم والشكوى للمسؤولين الذين يتجولون بالمنطقة أحيانا ليطلقوا الوعود ثم ينصرفون إلى مصالحهم المكيفة ومكاتبهم الواسعة ومنازلهم التى لا ينقصها شىء، وهى الشكوى نفسها الموصولة إلى الزائرين والصحفيين بعد أن أصبحت المنطقة من أشهر العشوائيات التى يقصدها الزائرون للفرجة والكتابة عنها، ربما لالتقاط صور تعبر عن شرائح نادرة من الفقراء والمعوزين ومعدومى الدخل، أو عن تأثير الفقر على الطبيعة البشرية!
حتى الآن لم أنس مشهد الرجل المصاب بأمراض صدرية، لا يستطيع معها التنفس إلا بصعوبة، ويعيش على الصدقات، قال لى بحزن، أريد أن أموت فى حجرة تدخلها الشمس، أريد أن أشم هواء نظيفا قبل أن أموت!
وحتى الآن لا أنسى مشهد السيدة التى قالت لى إنها وبناتها لا يدخلن دورة المياه لقضاء الحاجة إلا صباحا وفى جماعة، ومهما كانت الظروف لا يدخلن دورة المياه ليلا، خوفا من الاغتصاب، فى ظل وجود بلطجية وتجار مخدرات ومتعاطين لا يفرقون بين طفلة وامرأة وفتاة، ويحملون دوما أسلحة بيضاء و«خرطوش» جاهزة للقتل، وويل لمن تأخذه النخوة للدفاع عن الضحية المسكينة التى تسوقها الظروف، للمرور جوار دورة المياه ليلا، أى حياة هذه؟، وكيف يمكن أن يعمل من أجل بلده من يحيا ميتا، ولا يجد من حقوقه شيئا، كما لا يجد قوت يومه فى الأغلب، بل وينكره الناس وكأنه بشر دون البشر؟
هؤلاء هم الأولى برعاية الرئيس المقبل، لا يمكن أن نقبل بالحياة فى بلد، يعيش فيه البشر مثلما يحيا المواطنون الكاملو الأهلية وأصحاب الحقوق المهضومة فى أرض عزيز عزت، لا يمكن أن نقبل أن يحيا بيننا موتى يشبهون «الزومبى» فى الأفلام الأمريكية، يبحثون عن حيواتهم الضائعة بخطوات ضائعة قد تقودهم إلى التطرف أو الجريمة، ولا يمكن لومهم على ذلك.
أرض عزيز عزت مجرد نموذج للعشوائيات التى تحيط بالقاهرة وكثير من المدن الكبرى مثل الحزام الناسف، وتحتاج لخبراء يعترفون ويؤمنون بالحقوق الإنسانية المتكاملة التى لا تتجزأ، حتى يفككوا هذا الحزام الناسف ويحولوا العشوائيات إلى مناطق قابلة للحياة البشرية.
ومثلما قاوم المصريون فى السابق سياط الإقطاع ومثلما قاوموا المحتلين وقاوموا الحفاء والفقر المدقع وغياب التنمية والإرهاب الغادر يمكنهم أيضا مواجهة الفقر والعوز، والظروف المؤدية إليهما، إذا توافرت الإرادة السياسية والإدارة الرشيدة والسياسات التى تعمل لصالح الأغلبية.. والله أعلم.