أذكر ونحن فى السجن أن بعضنا كان يخرج كل يوم علينا من نافذة الزنزانة الضيقة، ليقص علينا رؤاه وأحلامه بأن الفرج قريب، وأن النظام القائم سيزول، وكانت تلك الرؤى والأحلام تكثر فى أوقات التضييق على المسجونين. كان الشيخ كرم زهدى من أكثر الناس تأثراً بالرؤى لكونه متفائل وعاطفى جداً، وتلعب الآمال المبشرة آثارها فى نفسه، أذكر أننى التقيته فى عربة ترحيلات، وكنا لا نزال نحاكم فى قضية الجهاد الكبرى، وقلت إنه لن يكون هناك إعدام لأحد منا، بينما كانت التوقعات تتحدث عن أكثر من خمسين، وكنت فى سجن الاستقبال بينما كان بقيتنا فى سجن طرة، وحين عاد الشيخ كرم بشر بتوقعى هذا، وسادت موجة تفاؤل كبيرة بين المسجونين. فى هذا السياق تأتى الرؤى والأحلام التى انتشرت وقت أزمة رابعة والنهضة، والتى تحدثت عن أن الرئيس مرسى صلى بالنبى صلى الله عليه وسلم إماما، كما تأتى رسالة المرشد من السجن برؤية مرسى فى السجن ثلاث مرات متتالية، بالبشرى بالنصر القريب، استمرارا لتلك الظاهرة الرؤيوية والمهدوية. ولعل أكثر الجماعات تأثرا بالرؤى والأحلام جماعة جهيمان العتيبى، التى كان يرى أعضاء الجماعة أنفسهم وهم يبايعون محمد بن عبدالله المهدى صهر جهيمان بين الركن والمقام، وكانت الرؤية يتم تداولها على نطاق واسع حتى صارت حقيقة وواقعا، لأن هؤلاء جميعاً لا يمكنهم التواطؤ على الكذب والاختلاق، ونسوا أن الرؤى لا تلزم ولا تستدعى بموقف حركى أو شرعى فى الحياة المشهودة.
فى كتابه «فتنة طائفية، أم شرارة الصراع على الهوية»، يشير الصديق عبدالله الطحاوى إلى تحليل اللاهوتى البارز «جورج حبيب بيباوى» عن عقلية الأقلية، وكيف أنها تجعل من الأحلام التى تشير إلى دعم الله لها فى مقاومة الضغوط، وخلق مجتمع جديد، يختفى فيه التمييز الدينى، هى رؤى ذات دلالات سياسية واجتماعية وثقافية، تمثل هروبا من الواقع الحالى بضغوطه إلى مستقبل مثالى بأحلامه. ويشير «أندريا زكى» لشرح نفس الظاهرة إلى أن تزايد الضغوط على الأقلية، يجعل من المعجزات العامة تأكيداً على أن الله مع هذه الجماعة، وأنه يتدخل لصالحها.
الكتاب فيه جهد قيم للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين فى مصر من منظور تاريخى، وبأدوات علم الاجتماع الدينى، رغم أن عبدالله قدم ما لديه من خبرات ومعارف فى هذا المجال، للوصول عبر ما طرحه لنموذج العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين فى مصر. ولو استعرنا ما أشار إليه مالك بن نبى عن دورة الحضارة التى تبدأ من الروح ثم العقل، فإن الحركات الدينية تبدأ من الحديث عن المعجزات فى سياق الأزمات الكبرى لمجتمعاتها نحو حالة من العقلنة والرشد، وصولاً للتعايش وضرورة التوافق، بيد أن تعرضها من جديد للأزمات يجعلها تعود مرة أخرى للبحث عن معجزة وأحاديث الرؤى والمهدوية. أى أن ثنائية الأزمة والرؤية والمهدوية تكاد تكون متلازمة فى فكر الأقلية، والجماعة التى تشعر بشعور الأقلية. ما يعتبر جديداً أن الأزمة التى تواجهها جماعة الإخوان فى علاقتها بالسلطة السياسية وبالدولة المصرية، تجعلها تدخل فى سياق نفسية الأقلية التى تجعل منها طائفة، أو كيانا مختلفاً عن السياق العام لبقية المجتمع المصرى التى تعيش فيه. هذا سيدفعها أكثر نحو البحث عن المعجزات والرؤى والأحلام، وهنا تدخل فى سياق الطور العقلانى الوسطى الرشيد إلى طور مختلف يتجاوز الواقع للبحث عن عالم الرؤى والأحلام، للتحرر من ضغط الواقع والولوج لعالم الأساطير المؤسسة للانغلاق على الذات، والانفصال عن الكل والمجموع، وهذا هو الخطر الحقيقى، أن تشعر أنك الجماعة حاملة الحق فى مواجهة الأكثرية التى تعج فى الجاهلية والباطل. لا نريد لمصر أن يكون من بينها أقليات معزولة عن الأغلبية، ولا جماعات مهدوية تشعر بجاهلية المحيط الذى تعيش بداخله.