فى ظل هذا المكان البئيس الذى يجتمع فيه عادة شرار الخلق من السراق والقتلة والغاصبين وقد يندر أن تجد بارقة نور ولمسة صلاح وجداها
وجد السجينان تلك البارقة فيه
"إنا نراك من المحسنين"
كان هذا هو المعيار الذى بنيا عليه لجوءهما إليه وتلك كانت الصفة التى أخذت بقلبيهما إليه
لقد التمسا فيه سمتا حسنا وخلقا وورعا جعلوه أهلا للسؤال ومظنة للإجابة
لم يكن لسؤاليهما علاقة بمعتقده أو معتقداتهما
لم يسأله صاحباه عن ربه ولم يشاوراه فى شأن أربابهما
السؤال كان عن رؤيا...
عن حلم رآه كل منهما..
لكن إجابة المحسن كانت فى صميم العقيدة
قبل أن يسارع بتأويل الرؤيا وإجابة السؤال تذكر رسالته والهم الذى يحمله فى صدره
نظر إلى حال المخاطبين وتأمل طبيعة المتلقين فكانت الرسالة قبل الإجابة والدعوة قبل النفع المباشر
فى البدء كانت الطمأنة أن الجواب لديه
" لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا"
هكذا قرر يوسف عليه السلام وبين أنه على علم بالتأويل وأن مطلبهما عنده وزيادة لكن ذلك كله ليس بفضله أو بكسبه وإنما هو من عند ربه، وهنا يأتى التدرج فى توصيل المعنى والرسالة التى يريد لها أن تصل
"ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى"
لقد أدار دفة الحديث إلى أمر الدين بشكل سلس ويسير ثم استمر فى رسالته وأداء مهمته
"إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ"..
"وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ"
هكذا عرف يوسف عليه السلام نعمة الله عليه ولم تنسه إياها تلك الجدران الرطبة والأسوار العالية التى هو حبيس بداخلها والنعم التى هو محروم منها، فكل ذلك يهون مادامت النعمة العظمى موجودة - نعمة الحق وشرف معرفة خالقه وتوحيده وعبوديته
هكذا عرف النعمة وشكرها ثم عرَّف الخلق بها
"يَا صَاحِبَى السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"
دعوة رقيقة راقية ومنطق سهل بسيط والأهم رسالة لا ينساها حاملها
ثم بعدها جاءت إجابة السؤال وتأويل الرؤى
لكن الأهم كان ذلك الهمّ الذى يشغله
همّ إنقاذ صاحبيه من ظلمات الشرك فى الدنيا ونيران الجحيم فى الآخرة
ذلك الهمّ الذى نسيه البعض اليوم والذى لم يعد يشغلهم فى ظل حمى التأطير والتصنيف المتبادل.
هم أخشى أن يتحول بعد حين إلى تاريخ يُتحاكى عنه بعد أن يندثر تحت طبقات سميكة من تصفية الحسابات وسوء الظن والصراع المحتدم الذى يجعل الناس فى النهاية إما أعداء وإما أولياء
إنه همُّ الدعوة إلى الحق والحرص على هداية الخلق
همّ الأنبياء ومن تبعهم ممن تحملوا الأمانة وفهموا معنى أن تكون حامل رسالة
عندما يستعيد حملة الرسالة تلك القيمة وتتعالى من جديد فى نفوسهم سيدركون أن كثيرا من تلك الجدالات والاستدراج إلى مراء وصراعات لم تكن دائما هى الأولى وأن إجابات أخرى وهموما مختلفة كانت أولى بقلوبهم وصدورهم وأن ليس كل مخالف عدوا حتى وإن بدا كذلك فى الظاهر.
فقط لو كانت قلوبا صادقة فى حملها للأمانة والرسالة
لوكانت من قلوب المحسنين