مضت ساعة وهو يجلس معى على المقهى وأمامه كوب الشاى لم يشربه ولا يتكلم.. الصحف القديمة التى لا تفارقه موضوعة على مقعد جواره.. بدورى لم أكن أتكلم، وتمنيت لو أن شخصًا ثالثًا حضر إلينا وسألنا لمَ هذا الصمت؟..
حتى الجرسون جلس بعيدًا صامتًا كأنه لا يرى الزبائن التى تهل على المقهى بين وقت وآخر.. أدهشنى أن أحدًا من الزبائن لم ينادِ على الجرسون، لكن كان لابد أن يتكلم أحدنا.. كنت أتوق إلى أن أسمع رأيه فيما يحدث، لكنه فجأة أخرج من جيبه أجندة صغيرة جدًا بها شهور العام، وفتحها أمامى على شهر إبريل وقال لى: انظر.
ما كدت أنظر حتى مزق الصفحة التى بأعلاها اسم شهر إبريل، ابتسمت، قلت:
- أظن أن هذه هى المشكلة فعلاً، هل طال عليك هذا الشهر كما طال علىّ؟
- لم أكن أتصور أنه يمكن أن ينتهى، لذلك مزقته رغم أن اليوم آخر أيامه.
قلت:
- تصور لقد سافرت خارج القاهرة ثلاث مرات إلى دولتين عربيتين، وإلى الغردقة، ورغم ذلك وجدته هناك، وجئت لأجده هنا.
- أنا أيضًا سافرت إلى طنطا بلدتى، أمضيت أسبوعًا، وعدت فوجدته كما هو، فعدت إلى طنطا أسبوعًا آخر وأتيت، ووجدته هنا وهناك فى كل مرة، لماذا لا تتغير الشهور فى البلاد؟
ضحكت، قلت: السؤال هو لماذا حقًا كان شهرًا مملاً بالنسبة لك، أنا أعرف لماذا كان مملاً بالنسبة لى.
- حدثنى أنت أولاً لماذا كان مملاً.
- لأنه لا جديد، عمليات إرهابية قذرة، ومظاهرات فى الجامعة لا تنتهى، ومحاولات للخروج من الجامعة لا تتوقف، وفوضى مرورية، وارتفاع أسعار، والحكومة تتحدث نفس الحديث عن صعوبة الوضع الاقتصادى، وضرورة أن يذهب الدعم إلى مستحقيه، ولا تدرك أنها وهى تصدر القوانين التى تريد بها تجميد الحياة تفجرها.. فعلت ذلك فى قانون التظاهر الذى أرادت به منع التظاهرات وليس تنظيمها، وفعلت ذلك أخيرًا فى قانون التحصين الذى أرادت به أن تجمد أى معارضة لما تفعله من بيع لأراضى الدولة وأملاكها، والتى هى أراضى الشعب وأملاكه.. كل ما تريد به الحكومة الاستقرار يؤدى إلى عدم الاستقرار، ومظاهر عدم الاسقرار واضحة فى الشارع، وفى كل شىء، ولا أحد يعترف من الحكام، لذلك أصابنى الملل، وشعرت أنه لا فائدة.. لابد من بركان.
- أنا أشترك معك فيما تقول، لكن الذى جعلنى أشعر أن الأيام لا تمر هو أننى وجدت صدفة أمامى رواية قرأتها فى شبابى اسمها صحراء التتار لكاتب إيطالى اسمه دينو بوتزاتى، هل تعرفها؟
- لا.
- هى عن شاب تخرج فى المدرسة العسكرية حديثًا، وأُوكلت إليه قيادة القلعة التى تصد التتار إذا هاجموا البلاد، فذهب إلى القلعة، وظل بها حتى صار عمره ستين سنة، ولم يأت التتار.. مر العمر هدرًا.. لم ينعم به فى المدينة، ولم يحارب التتار.. حين قرأتها زمان رثيت لحال الإنسان الذى يضيع عمره وراء سراب، لكننى الآن حين قرأتها نظرت خلفى أحمى نفس بما رأيت فى مصر من عظمة فى الحركة، فلم أتذكر شيئًا منها، ووجدت نفس فى فراغ حقيقى، وطال علىّ الوقت.
- معقول أنك لم تتذكر أى شىء؟
- لم أتذكر أى شىء.
- ولا حتى أيام ميدان التحرير.
- ولا حتى أيام ميدان التحرير.
- رغم كل هذا الهجوم فى الفضائيات على ثورة يناير وشبابها؟!
- حين يفعلون ذلك أندهش، فلم أعد أتذكر فعلاً عمن يتكلمون؟
هنا ضحكت. قال:
- المشكلة أنهم جميعًا تقريبًا يتكلمون لغة واحدة، ولهم ورأى واحد فى كل مسألة، هو رأى الحكومة، وكل الآراء تهاجم يناير وتمدح فى يونيو وما بعدها، رغم أن يونيو بعد يناير وإبريل فى الوسط مثلاً.. يا رجل هذا العام لم يتذكر أحد إبريل بكذبة جديدة حتى! بصراحة رغم الملل كنت أحب لو لم ينته إبريل.
ضحكت بقوة، فقال وهو ينظر إلىّ مندهشًا:
- يخيل لى أنه فى يونيو القادم سيبدأ التاريخ، سيكون يونيو هو الشهر الأول فى العام الأول للمصريين؟
ضحكت أكثر فقال: وسيكون الشهر الثانى يونيو أيضًا.
ضحكت بقوة فقال: والشهر الثالث وهكذا حتى الشهر الثانى عشر، ويبدأ يونيو من جديد.
- أنت غريب، رغم أنك قلت عما جرى ثورة.
- أنت الذى قلت لى وأقنعتنى بذلك.
- ومازلت، لأن الناس خرجت عن بكرة أبيها إلى الشوارع والميادين، وانضم لهم الجيش والبوليس.
- طيب هى كانت ضد حكم الإخوان، لماذا تتحول ضد يناير وثورته؟!
- لعلمك هذه معركة بين شهور السنة، ولا علاقة لها بالسياسة!
هنا ضحك فقلت:
- أيوة كده يا رجل خوفتنى عليك، شوف إحنا كبرنا وخلينا نعيش يومين بدون وجع دماغ.
- أنا عايز والله لكن لما يصدر حكم بحظر جماعة 6 إبريل، وهى أصلاً ليست جماعة مشهرة ولا كيانًا قانونيًا، لازم تندهش، الحكم ده على مين.
- إذن، أنت تفكر وتتأثر ولا يوجد ملل.
- أفكر فى لا شىء، تمام مثل الشيخ برهامى الذى أفتى بأن يترك الرجل زوجته لمن يغتصبها حفاظًا على حياته، رغم أن الحديث الشريف يقول من مات دون عرضه فهو شهيد.
- هو صحح المسألة، وقال إنه يقصد بالفتوى الرجال فى سوريا والعراق! هناك زى ما أنت عارف ما وصلتش الأحاديث النبوية!
نظر إلىّ بغيظ ويكتم ابتسامة، وقال: دعنا من هذا كله، خلينا فى الملل أحسن، هل تذكر قصيدة كفافيس فى انتظار البرابرة؟
- طبعًا.
- هل رأيت كيف خرجت المدينة لتستقبل البرابرة، حكامها وشعبها، ولم يأت البرابرة، هل تذكر آخر سطر فيها.
- من ينساه، لقد كان البرابرة حلًا من الحلول.
- طيب أين نجد البرابرة الآن؟
قلت ضاحكًا: نكد بنكد قرأت قصة اسمها «قبو البصل» لكاتب ألمانى اسمه جونتر جراس، قصة قصيرة عن شخص افتتح مطعمًا تحت الأرض يقدم البصل للناس ليس ليأكلوه لكن ليكسروه ويضعوه على عيونهم فيبكون، المدينة كلها وقفت طوابير على المحل!
ضحك، قلت: الحمد لله أضحكتك.
قال: مرغم أخاك لا بطل.
قلت: حتفرج إن شاء الله.
- فى يونيو برضه؟
- فى أى يوم، ما السنة كلها زى ما قلت حتبقى يونيو.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة