حالة من الحب المستحيل، وشجرة عشق مروية من بحر بيروت «الأم لبنانية»، وشاطئ بلد المليون شهيد «الأب جزائرى»، ونهر الليطانى فى الشام، حيث الأخوال سوريون، والفروع ممتدة، والظلال تفىء من طرطوس إلى باريس، ومن دجلة والفرات إلى خليج العرب، وكل هذا الخليط تم عجنه وخبزه تحت شمس مصر العربية.. وببساطة يمكن القول إن العظيمة المدهشة الساحرة وردة كانت بذرة عربية من الصعب تصنيفها، ونسبها إلى بلد بعينه، حتى جاءت مصر فدخلت جينات «المصاروه» فى دمائها، وتسللت إلى موهبتها وحنجرتها، فانصهرت وذابت فى ماء النيل الخالص، فخرجت مغسولة فى بحر أسوان، وصعدت لأهرامات الجيزة، وتلونت بأخضر الصفصاف، وأم الشعور على ترعة فى الريف، وكانت وردة النيل الطافية على سطحها تشرب الشمس، وتغازل الأصيل، والشفق ثم تغنى مع صوت كروانها، وتهز ريشها الطاووسى وهى تردد «الملك.. لك.. لك.. لك».. نعم وبصراحة أنا لم أجد أكثر متعة بالنسبة لى الآن ونحن فى رحاب الذكرى الثانية لرحيل وردة، إلا أن أكتب عن وردة، لأنها وسط كل الأصوات التى خرجت من هوليوود الشرق - عندما كانت - وصاغتها الذائقة المصرية عندما كانت تطلق مذاقها وعبقها فى سماء العروبة تظل وردة حالة خاصة جدا.. وردة التى رأيت فى شارع فى باريس مطعم والدها، ودعيت لدخوله، ولكن وقفت مشدوها والنادل ينادى علىّ، وتساءلت: هل قصد والدها أن يكون المقهى فى هذا المكان مواجهًا لشارع جامعة السوربون ومنطقة توفيق الحكيم التى ذكرها فى «عصفور الشرق».. إذن تربت وردة صغيرة وسط هذا البستان الرائع من مجمع الفنون الباريسى، وعندما التقاها حلمى رفلة، واستمع لصوتها وهى تغنى فى مطعم ومقهى والدها فى باريس أغانى أم كلثوم وحليم واسمهان وعبدالوهاب، عرض عليها السفر إلى مصر، واحتراف الغناء والتمثيل، لكن والدها رفض حتى لا يخسر وجودها وجمهور المقهى من العرب الذين صاروا يأتون لها خصيصًا، لكنها طلبت السفر لأهل أمها فى بيروت، وهناك بعد مدة قصيرة سافرت إلى مصر، واتصلت بالمنتج حلمى رفلة الذى استقبلها بحفاوة، ووقع معها أول بطولة وهو فيلم «ألمظ وعبده الحامولى»، وأحدث ضجة رهيبة عند عرضه، واستقرت وحققت شهرة طاغية جعلت الرؤساء والملوك يخطبون ودها، وفى مطلع الستينيات حدثت واقعة دخلت فيها السياسة مع الغناء، وأطلقت بعض الجهات المخابراتية فى المنطقة شائعة علاقة غير شرعية بينها وبين المشير، مما جعل عبدالناصر يصدر قرارًا بترحيلها ومنعها من دخول مصر، والواقعة فى مطلع الستينيات وأيام الوحدة بين مصر وسوريا، حيث كان المشير عامر، وزير الحربية وقتها، عائدًا لدمشق بعد رحلة إلى مصيف بلودان، وفى الطريق بالصدفة كانت وردة فى طريقها لدمشق، وتعطلت سيارتها، وأمر المشير بأن يوصلها، ودعاها لاستراحته فى وجود أنور السادات، واللواء أحمد علوى، ذراعه اليمنى، وعبدالحميد السراج، الزعيم السورى، ولكن القصة نقلت لعبدالناصر مشوهة، وقيل إن صلاح نصر أو أحد رجاله وراءها، فكان قرار ناصر آنف الذكر، ولم يزل هذا الظلم حتى أعلن بليغ حمدى العبقرى أنه سيتزوجها، وطلب من حليم التدخل لدى ناصر لتصحيح الوضع، ولم يستطع، وكانت هى قد تزوجت السياسى المسؤول الجزائرى جمال قصيدى ومنعها من الغناء، وبعد طلاقها منه عادت للغناء مع بليغ عام 1972، لتبدأ معه رحلة ثرية استمرت حتى عام 1979 قدما فيها أجمل حصاد للطرب العربى، وصنعا دويتو ساحرًا، يكفى أغنية «باودعك»، ويكفى أغنياته معها- حتى بعد الطلاق - وهو فى باريس بعد أزمة سميرة مليان وغربته هناك لمدة خمس سنوات، ثم عودته.. وردة كانت نبتة فى بستان مصر، ثم صارت زهرة يافعة فى حديقة بليغ حمدى، وعطرها الأصيل انطلق من مصر إلى العالم العربى كله، لتؤكد أنه لا شهرة لمبدع أو مطرب بدون مصر، وهذا هو الدرس الباقى لمن لا يفهم من عملاء الداخل، أو متآمرى الخارج حتى بالفن الممزوج بالسياسة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبده ربه
العدالة الاجتماعية مفهومها و استراتجيتها