أسال نفسى كثيرًا هذا السؤال، أو فى الحقيقة يقفز هذا السؤال أمامى كثيرًا، فكثير من الناس العاديين يتصورون فى السيد عبدالفتاح السيسى شيئًا من جمال عبدالناصر، ويتكرر الأمر مع السيد حمدين صباحى.. لا ألوم الناس العاديين، تشبيههم للسيد السيسى أساسه موقفه من الإخوان، وتشبيههم للسيد حمدين صباحى أساسه تاريخه كناصرى، وبرنامجه الواضح الانحياز إلى الفقراء.. فقط عندما يتكرر هذا الأمر من بعض المثقفين أو الشباب المثقف أجد نفسى مندهشًا لأنه أولا عبدالناصر مات، مات مشروعه القومى معه، ومات مشروعه الاجتماعى والاقتصادى والثقافى بموته
وفتح السادات الباب لكل ما هو ضد مشروع أو حتى أفكار جمال عبدالناصر، فالمشروع القومى صار فى خبر كان أمام المشروع الإسلامى والمشروع الاشتراكى والثقافى وما تشاء. كله ضاع، والسبب لم يكن قوة السادات، لكن كان افتقاد الديمقراطية فى عهد عبدالناصر، لم يجد أى شىء مما تركه عبدالناصر من يدافع عنه إلا القليل من السياسيين
يساريين وناصريين، كان ينتهى بهم الحال إلى الاعتقال كل عام حتى خمدوا وهمدوا.. الدرس الوحيد من الفترة الناصرية ليس فيما فعله عبدالناصر، ولكن فيما لم يفعله، أو فيما أجهز عليه.. كانت كلمة الديمقراطية شعارًا استهل به السادات كل أحاديثه وكل أفعاله، لكنه بسرعة لم يستطع أن يخفى ديكتاتوريته، وأعلن أن الديمقراطية «ليها سنان»!. وتضليلًا للشعب
وتشجيعًا للتيارات الدينية المتخلفة أطلق على نفسه الرئيس المؤمن، ورب العائلة المصرية، مثل أى ديكتاتور يبحث عن صفة أكثر أخلاقية على مستوى الروح الشعبى.. استمر حسنى مبارك على العهد دون أن يطلق على نفسه أى صفة، لكن لا أنسى أول خطاب له بعد نجاحه فى الاستفتاء الذى أقبل عليه الناس نكاية فى الإرهاب الذى صعد فى البلاد بعد اغتيال السادات..
فى هذا الخطاب جاءت جملة أو أكثر من خطاب عبدالناصر حين أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، فقال عن الدولة إنها تحمى ولا تهدد، تصون ولا تبدد، توحد ولا تفرط.. إلخ، وكانت هذه مغازلة روحية للناس فها هو عبدالناصر سيعود ويقضى على الإرهاب.. نجح مبارك بالفعل فى القضاء على الإرهاب، لكن بثمن دفعه كثير من غير الإرهابيين الذين تحولوا إلى إرهابيين بعد ذلك، ولم يسعَ مبارك أبدًا للقضاء على الفكر الإسلامى المتخلف بالتعليم والحياة الاقتصادية الكريمة وبالحرية أيضًا
فاستطاع بأجهزة الدولة القديمة أن يقيم ديمقراطية شكلية لم تفرغ خلالها السجون من المعارضين ومن الأبرياء.. إذن الرجل الذى افتتح حياته الرئاسية بجملة من خطاب عبدالناصر كان يعرف أن لعبدالناصر وجهين، وجهًا اقتصاديًا واجتماعيًا ناجحًا، ووجهًا بائسًا هو القضاء على الديمقراطية. مشى مبارك فى طريق السادات، مسح الوجه الاجتماعى، وانفتحت الأبواب للصوص، وأعطى الوجه الديمقراطى مسحة من لون مزيف «يطلع عليها النهار تسيح»!
أكتب هذا الكلام قبل الانتخابات لأذكر من يقرأ هذا المقال بأن ثورة يناير جاءت بشعارات كلها رد فعل لما جرى.. العدالة الاجتماعية راحت لأن عبدالناصر لم يترك خلفه من يحميها لافتقاد الديمقراطية، فكان شعار ثورة يناير عيش حرية عدالة اجتماعية، والعيش هو الحياة الطبيعية، والحرية هى الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية تعرفونها..
إنها شعارات افتقدناها بدرحات عبر الستين سنة السابقة للثورة.. افتقدنا الحرية فى عهد عبدالناصر، وكسبنا شيئًا من العدالة الاجتماعية، وافتقدنا الجميع فى عهد السادات ومبارك، فضلا على أن هذه الشعارات هى شعارات كل الثورات العظيمة فى تاريخ الإنسانية، من الثورة الإنجليزية فى القرن السابع عشر، إلى الثورة الفرنسة فى القرن الثامن عشر، إلى الثورة الأمريكية فى القرن التاسع عشر، إلى حتى الثورة الشيوعية فى القرن العشرين
والثورة الإسلامية فى إيران فى القرن نفسه، والثورات البرتقالية فى أوروبا.. لم تنجح كل هذه الثورات فى تحقيق أهدافها، والتفت على بعضها الثورات المضادة، ودخل بعضها فى طريق ضيق، لكن شعارات الثورات هى مطلب إنسانى يمشى مع الإنسان فى كل العصور، وبقليل من التفكير تكتشف أن كل شىء يتحقق بدون ديمقراطية يمكن القضاء عليه..
مصر طبعًا مثال كبير، والشيوعية فى الاتحاد السوفيتى مثال أكبر وهكذا.. الديمقراطية هى مفتاح نجاح الثورات، ومفتاح تحقيق أهدافها، والثورات المضادة كلها تستهدف إيقاف التطور الديمقراطى قبل أى شىء آخر.. يمكن لأى نظام ديكتاتورى أن يضحك على شعبه بتطور فى الاقتصاد، ومستوى معيشى طيب، لكنه فى النهاية يكره الديمقراطية، ولا يهمه إذا قامت ثورة عليه أو بعده، فسيكون قد حكم وتحكم، وفاز بما فاز من عز وسلطان وجاه
بل سترى الشماتة فى عينيه وهو يرى شعبه يموت من أجل الديمقراطية وكأنه يقول «ماقلت لكم أنا أو الفوضى»!
إذن علينا أن ننسى اسم عبدالناصر، ولا نقرن به أى مرشح.. حين أسمع حمدين وأقرأ برنامجه أراه قد خلع الثوب الناصرى بتركيزه على الحريات، وإلغاء ما يمنع حرية الرأى من قوانين، لا أسمع شيئًا من ذلك فى حديث المشير عبدالفتاح السيسى، وإن كنت أسمع الوعود الاقتصادية البعيدة المدى!
ما بقى من عبدالناصر كما قلت لا شىء إلا ذكرى طيبة لمن تعلموا فى عصره، أو وجدوا وظائف، وتزوجوا وسكنوا، وينسون أن أبناءهم لم يجدوا فرصتهم، ولا يتذكرون أن السبب كان عبدالناصر حين أخمد الديمقراطية التى لم تخلق شعبًا يدافع عن مصالحه، إلا- كما قلت- أعدادًا قليلة من اليساريين والناصريين همدت مع الزمن.. تفاصيل ذلك كثيرة جدًا
أولها وجود قطاع عام يكفل الإنتاج والوظائف بلا حركة عمالية تدافع عنه، بلا استقلال للنقابات تحت شعار لماذا الاستقلال والدولة تفعل لكم كل شىء، وكانت النتيجة أن تم بيع هذا القطاع بعد تخسيره وإهماله دون بكاء من أحد، ثانى التفاصيل إلغاء وجود الأحزاب، فتحول كل رجال الاتحاد الاشتراكى تقريبًا إلى الحزب الوطنى الداعم للسادات فى سياسته الجديدة..
لن أعيد وأزيد، فالحديث عن عبدالناصر الآن سينتهى بخلق طاغية، وسيساعد الإرهاب، وما يفعله الإخوان على ذلك، وأرى بسمة سخرية بعيدة من كل من يشبه أحدًا بعبدالناصر.. بسمة سخرية على شفاه الإرهاب الذى يسعى جاهدًا لا لدمار الدولة، بل لإعادتها إلى دولة مبارك، فيكونون هم الوجه الآخر لها كما كانوا، ويشكرهم النظام سرًا وعلنًا بفتح طريق وجودهم السلمى الذى يهدد به كل من يرفع شعار الحرية، أجل.. لا تقارنوا أحدًا بعبدالناصر
نحن فى زمن آخر يحاول الكثيرون فيه أن يعيد التاريخ إلى مجراه القديم، فلا تساعدوهم فنكون «عرّة» الأمم! الديمقراطية التى هى غاية كل حى، متعلم أو جاهل، هى مفتاح كل تقدم، وهى صانعة التاريخ الحقيقى، وليس للديماقراطية علاقة بعبدالناصر ولا يغفلها إلا الطغاة، مهما قدموا من موائد طعام!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود على
الديمقراطية هى الحل
عدد الردود 0
بواسطة:
د. احمد الباسوسي
رائع