على الرغم من أن زيارتى الأخيرة للعاصمة الفرنسية باريس ليست الأولى فإنها تركت فى نفسى الكثير والكثير من المشاعر الإنسانية التى تغلغلت داخل وجدانى فقد تحولت تلك الزيارة التى قمت بها من أجل إجراء بعض الفحوصات الطبية إلى حالة خاصة جدا عشتها بتفاصيلها الدقيقة التى تفوق كل وصف وتفوق كل خيال، وذلك لما لمسته خلالها من مشاعر الحب الفياض الذى يسكن قلوب الكثيرين من أبناء الوطن المغتربين فى باريس التى يطلقون عليها اسم «عاصمة النور»، ولما لمسته من حفاوة فرنسية بمصر وبثورتها الشعبية.
فبعد الانتهاء من إجراء الفحوص الطبية التى كانت مطمئنة والحمد والشكر لله استمتعت كثيرا بالجو الباريسى حينما كنت أتجول فى الشانزليزيه وعدد آخر من شوارعها التى تفوح منها رائحة الجمال وتفوح منها أجواء الحرية والإبداع، بل تفوح منها أيضا التناقضات فى كل شىء، فعلى الرغم من أن فرنسا كما علمت تمر بأزمة اقتصادية طاحنة تكاد تصل إلى حد الإفلاس فإن الشعب الفرنسى يتمتع بقدرة هائلة على التعايش فى ظل كل الأجواء، ما يجعلهم يعيشون حياتهم كما يحبونها، ويستمتعون بكل شىء من حولهم، بل يحولون مظاهر القبح إلى آيات من الجمال الذى يبدو فى أروع صوره.
والحق يقال فإن سر إعجابى واحترامى للشعب الفرنسى لم يأت من فراغ، وإنما لأن فرنسا كانت وما تزال فى طليعة الدول المعتدلة فى علاقتها بمصر، وعلى وجه الخصوص بثورة 30 يونيو الشعبية، حيث اعتبرت أن ما حدث فى مصر هو إرادة شعبية غير مسبوقة فى التاريخ.. نعم لقد كانت مواقف فرنسا تجاهنا على العكس تماما من دول كثيرة فى الاتحاد الأوروبى، وعلى وجه الخصوص تلك الدول التى وقفت موقف العداء من ثورتنا الشعبية، ربما من أجل إرضاء التنظيم الدولى للإخوان المسلمين الذى يصول ويجول داخل هذه الدول، وربما من أجل السير فى ركب أمريكا الرافضة لثورتنا لأسباب تتعلق بمصالحها فى المنطقة، لذا فقد احترمت فى فرنسا حيادها التام تجاهنا وتجاه ثورتنا وتجاه خارطة المستقبل التى بكل تأكيد سوف تأخذ مصر نحو التحول الديمقراطى الصحيح.
ولأننى كنت قد كتبت مرارا وتكرارا فى أعقاب ثورة 30 يونيو، مطالبا بأن تكون بعثاتنا الدبلوماسية فى الخارج على قدر كبير من الاحتراف فى التعامل مع الشعوب الخارجية، وبالتحديد فى دول أوروبا لتوضيح حقيقة ثورتنا الشعبية الرائعة باعتبارها إرادة شعب خرج بالملايين وثار على الظلم والقهر والاستبداد، فقد استوقفنى بل أثار إعجابى هذا النشاط الملحوظ للبعثة الدبلوماسية المصرية فى فرنسا وعلى رأسها السفير محمد مصطفى كمال سفير مصر بباريس، فقد شعرت خلال لقائى به أننى ألتقى دبلوماسيا من الطراز الأول، فالرجل يمتلك من القدرة والحنكة والذكاء ما جعله يسهم وبقدر كبير فى تغيير الكثير من المفاهيم الخاطئة لدى المجتمع الفرنسى، بل المجتمع الأوروبى بالكامل عن مصر.
إن ما لمسته بنفسى خلال تلك الزيارة من تقدير واحترام للبعثة الدبلوماسية المصرية وعلى رأسها السفير محمد مصطفى كمال شيئا مشرفا يدعو للإحساس بالفخر لأن خارجيتنا تضم رجالا أكفاء يعملون بجد واجتهاد وإخلاص وحب لمصر يصل إلى درجة العشق.. الأمر الذى يدعونى للمطالبة مجددا بأن تكون جميع بعثاتنا الدبلوماسية فى الخارج على نفس هذا المستوى الرفيع والمشرف من أجل توضيح صورتنا الحقيقية أمام المجتمع الخارجى بشكل احترافى لا يقبل التشكيك من جانب بعض القوى «المشبوهة» المعادية لنا والمناهضة لقضيتنا العادلة فى سعينا نحو التحول الديمقراطى بخطى ثابتة.
ولن أكون مبالغا إن قلت إننى ما أن وصلت إلى باريس حتى انتابنى شعور بالحب الفياض نحو مصر وإحساس لم أجد من الكلمات ما يمكن أن أصفه به، حيث تملكنى الحنين إلى تراب مصر وأرضها الطيبة، إنه حنين تشعر به منذ لحظة الإقلاع بالطائرة ولا تستطيع وصفه لأنه حنين من نوع خاص، نوع لا يشعر به إلا من شرب من نهر النيل الذى لا يضاهيه كل أنهار العالم، هذا الحنين للوطن شاهدته مجسداً أيضاً حينما ارتسم على وجه السائق النوبى «صلاح» الذى ظل معى فى جميع تنقلاتى خلال هذه الزيارة والذى استطاع من خلال ثقافته التلقائية وذكائه الفطرى وطيبة قلبه التى لا تعرف الغش أو الخداع أن يجعلنى ملما بكل تفاصيل الحياة الباريسية التى تجرى من حولى فى كل مكان سواء من إضرابات شبه يومية أو تظاهرات هنا وهناك، هذا السائق المصرى الأصيل حكى لى أنه يعيش فى باريس منذ حوالى 25 عاماً ويعشق مصر إلى درجة الجنون ويتملكه دائما شعور قوى ورغبة جامحة فى أن يعود إلى مصر ليقضى بها ما تبقى له من العمر، وكان حديثه معى نابعاً من القلب فلم يتمالك هذا السائق الطيب نفسه وهو يتحدث عن حنينه للمحروسة فقد فاضت عيناه دموعا خرجت بتلقائية وطيبة وكأنها حبات لؤلؤ قد انسابت على وجنتيه التى اكتست باللون الأسمر المصرى الأصيل وهو يقول لى جملة ما تزال تتردد فى مسامعى «بوس لى تراب مصر» قبل أن يقلنى بالسيارة إلى المطار حينما كنت عائدا إلى مصر.
ليس هذا هو حال السائق النوبى وحسب، بل هو حال الكثيرين من أبناء الوطن الذين يعيشون فى «الغربة» فهؤلاء قد تكون بيننا وبينهم مسافات طويلة تصل إلى عدة أميال لكنهم فى حقيقة الأمر قريبون جدا من الوطن، لأن مصر كانت وما تزال تعيش بداخلهم بل هى محفورة فى وجدانهم وتجرى فى عروقهم مجرى الدم، ولأن مصر كانت وما تزال بالنسبة لهم أكبر بكثير من هذه «الغربة».. ولأن مصر كانت وما تزال بالنسبة لهم هى المصدر الرئيسى الذى يمدهم بدفء المشاعر وبالعزيمة التى تعينهم على مواجهة قسوة الحياة خارج حدود الوطن، فمصر بالنسبة لهم بل لنا جميعا دولة أكبر من التاريخ لأنها هى التاريخ نفسه، كما أنها بمثابة دولة أكبر من الدنيا لأنها هى أم الدنيا، ولن أكون مبالغا إن قلت أنها ستصبح بالفعل هى «كل الدنيا» فى القرب العادل إن شاء الله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
مقال مبهج لكل مصرى اصيل يعشق تراب بلاده - اللهم اهدى مصريين الداخل ووحد قلوبهم
بدون