انتهت منذ ساعات معركة انتخابية كانت هى الأكثر غرابة فى تاريخ الاستحقاقات الانتخابية السبعة، التى مرت على المصريين فى مدى زمنى لم يتجاوز ثلاث سنوات، ورغم أن الأرقام النهائية لهذه المنافسة لم تعلن بعد رسميا، فإن المؤشرت شبه النهائية تقول إن جملة من صوت فى هذه الانتخابات ممن لهم حق التصويت والبالغ عددهم ما يقرب من 54 مليونا، وصلت إلى 25 مليون صوت بما يعنى أن نسبة التصويت بلغت %46.9، وهى تزيد قليلا عن نسبة التصويت فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية السابقة، التى جرت فى سياق مختلف يجعل المقارنة ليست فى صالح الانتخابات الحالية، حيث لم تعرف مصر فى هذا الوقت انقساما حادا كالذى شهدته فى أعقاب موجة 30 يونيو، والحرب المفتوحة التى خاضتها مجموعات الإرهاب ضد الدولة المصرية، بهدف تعطيل مسيرتها بعد سقوط جماعة الإخوان، بدا منذ بداية الحملة أن خطة الإخوان انصرفت إلى حث الناس على المقاطعة، واستخدمت الفتاوى الدينية كالمعتاد فى حثهم على عدم المشاركة، حيث أصدر ما يسمى بتحالف دعم الإخوان فتوى قالوا إنها موقعة من 200 عالم، للمصادفة بعضهم مطلوب فى قضايا جنائية والآخر فى قضايا إرهابية وبعضهم مسجونون سابقون، لم تجد الجماعة حرجا فى أن تنشر أسماءهم على مواقعها الإلكترونية، بمؤازرة ذلك أطلقت الجماعة مجموعة من المبادرات السياسية سبقت هذا الاستحقاق، بهدف فتح مسار لما يسمى بالقوى الثورية والشبابية، لكى تعبر تلك القوى عن نفسها تحت هذا الغطاء وتتبنى فكرة المقاطعة بما يستهدف بالأساس تقليل نسب المشاركة، حيث اعتمدت الجماعة للنهاية عنوان منازعة الشرعية والحديث عن شرعية الرئيس المنتخب بنسبة تصويت بلغت ما يقرب من %49 من أصوات الناخبين، وابتلع البعض الطعم وأصبح هاجس حملة السيسى والإعلاميين المعروفين بنزقهم وحماقتهم هو الحديث عن نسبة تصويت يجب ألا تقل عن %75، وهذا وهم كبير يتجاهل طبيعة التصويت فى مثل هذه الاستحقاقات التى لا تتجاوز فى الكثير من دول العالم المتقدم من 50 إلى %55 .
ربما احتكم البعض لنسبة التصويت فى الانتخابات البرلمانية فى عام 2012 التى وصلت إلى %64، وهذا أيضا ينطوى على تسطيح ومقارنة لا تجوز حيث تختلف طبيعة الحشد بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، هذا فضلا على أمر آخر لم يلتفت له الكثيرون، الانتخابات فى النهاية هى نتاج تفاعل بين مناخ سياسى ومنافسة بين ماكينات انتخابية للمرشحين، بالطبع كان المناخ السياسى مشحونا إلى حد كبير بحيث بدا أن المعركة محسومة بفعل أداء إعلامى غير متوازن وغير رشيد، ولول الإعلاميون هلعا من تدنى نسبة المشاركة وخرجوا عن اللياقة بشكل اعتاده بعضهم فى ابتذال وسخافة، لأنهم منذ البداية وضعوا لأنفسهم هدفا غير واقعى بالحديث عن تلك النسبة المرتفعة %75، وتعالوا نفصل الكتل التصويتية انطلاقا من استحقاقات انتخابية سابقة وتحديدا برلمان 2012 الأعلى مشاركة حتى الآن، فى هذه الانتخابات حاز تحالف الإخوان على 10.219.394 صوتا بنسبة 21 % من جملة من لهم حق التصويت، بينما حاز التحالف السلفى الذى ضم حزب النور على 7.582.892 صوتا بنسبة %15 من جملة من لهم حق التصويت، بينما لم تزد حصة أحزاب تعود فى تركيبتها للحزب الوطنى إلى %5 من جملة من لهم حق التصويت، فى هذه الانتخابات غابت ماكينة الإخوان الانتخابية التى كانت قادرة على حشد %21 من كتلة التصويت، وأتصور أن ماكينة الحزب الوطنى لم تعمل بكامل كفاءتها أيضا منذ ما قبل ثورة يناير وبالتالى تخلفت كتلة كانت قادرة على حشدها لا تقل عن %5، وإذا اعتبرنا أن كتلة التيار السلفى لم تعد تعبر عن حزب النور الذى لم يعد يمثل بصدق التيار السلفى، حيث خسر جزءا كبيرا من قواعده بما يجعله فى النهاية غير قادر على حشد أكثر من %20 من أصوات الناخبين من قواعده بالأساس، وهو ما لا يمكن ترجمته لرقم تصويتى يمكن التعويل عليه، سنجد أن هذه الانتخابات غابت عنها تلك الماكينات الانتخابية التى أسهمت فى تخلف كتل الإخوان والسلفيين وبعض كتل الوطنى التى يبلغ مجموع قدرتها على الحشد %35 من جملة من لهم حق الانتخاب، مما أسقط رهان البعض على نسبة قدروا أنها ستصل إلى %75، وبخصم تلك النسبة من نسبة من قاطعوا سنجد أن النسبة الطبيعية للمشاركة فى ظل هذا الواقع تكون %40، وهى النسبة التى فاقتها تلك الانتخابات حيث سجلت وفق ما أعلن من مؤشرات غير رسمية %46.9، بما يعنى أن تلك النسبة هى الأعلى من أى استحقاق سابق مماثل، قياسا على الإعلان الدستورى فى مارس 2011 الذى لم تتجاوز نسبة المشاركة فيه %35.7، أو دستور 2012 الذى لم تتجاوز نسبة المشاركة فيه %33.4، أو حتى دستور 2014 الذى لم تتجاوز النسبة فيه أيضا %38.6.
فى هذا السياق السياسى بقى أن يطيل الرئيس القادم التأمل فى دلالة إبطال نسبة %4 من الناخبين لأصواتهم، فى ترتيب جعل حمدين صباحى الثالث للمرة الثانية فى ثانى انتخابات رئاسية، رغم أنها جرت هذه المرة بين متنافسين اثنين فقط، وإن كان الرجل يستحق تحية واجبة لأنه امتلك الشجاعة لخوض المعركة، وأصر على قراءة وطنية صادقة للحظة جعلته زعيم معارضة حقيقيا قادرا على خوض المعارك والبناء على ما تفرزه من مواقف، وكم أتمنى عليه أن ينظم صفوف حملته فى حزب سياسى حقيقى، يقوده فى مرحلة لاحقة للحكم شريكا أو منفردا، ويجب ألا ننسى الإشارة إلى أن هذه المعركة خلت من المال السياسى والرشاوى الانتخابية العلنية أو السرية، ولم ترد شكاوى أو تقارير محلية أو دولية تثير الشكوك فى جديتها أو نزاهتها، بما جعلها حظيت بثقة تيارات معارضة عتيدة لعل منها ما قاله لى صديق يسارى عتيد أقسم أن هذه الانتخابات هى الأكثر نزاهة وربما الأكثر رشدا فى تاريخ الانتخابات، وإن أرجف المرجفون وشكك المشككون، بقى أن ننظر للمستقبل الذى لم يعد يحتمل المهاترات أو المؤامرات، فلدينا ما يكفى منها.
عدد الردود 0
بواسطة:
wael
تحليل عقلاني