كثيرا ما تأملت مساعى الساسة للحفاظ على حقوق الجماهير، وكثيرا أيضا ما لاحظت المتاجرة بهموم وأحلام البسطاء لبناء مجد سياسى وشعبية بين الطبقات الكادحة، وحينما تشتبك القضايا بين الدولة والقطاع الخاص وممثلين عن الشعب، تجد نفسك حائرا بين أطراف ثلاثة كل منهم يدعى اختصاصه بالحق وحده، وهنا لا تستطيع وأنت تشاهد وتقيم إلا أن توازن بين مصالح الدولة ممثلة فى الحكومة، وحقوق الشعب فى ممتلكاته وموروثات الأجيال القادمة، وبين حق المستثمر الذى ينسحب على حقوق العاملين وفتح أسواق للعمل!!
برغم انتمائى للتيار الليبرالى الذى يؤمن بالحرية الاقتصادية وتحرير الأسواق وعدم منافسة الدولة للقطاع الخاص، إلا أننى أيضا أؤمن باستحقاقات الحالة المصرية الاقتصادية وضرورة الحفاظ على القطاع العام الرابح خاصة تلك الشركات والمصانع التى تتعامل مع السلع الاستراتيجية، مثل الحديد والصلب والأسمنت والمنسوجات والسكر وخلافه، حيث أرى أنه من الضرورى أن يكون للدولة يد موازية فى تلك الصناعات وقوية مع مراعاة الابتعاد عن المماراسات الاحتكارية والإقصائية، وأيضا الحفاظ على المصانع والشركات الرابحة أو حتى التى لا تخسر، وبشكل أساسى لعدم المساس بحقوق العمال فيها ومراعاة تطويرهم التدريبى وتطوير أدواتهم الإنتاجية أيضا، ومن هذا السياق فإنى لا أرى أن معاملات بيع القطاع العام السابقة كلها سرقة وهدم لمقدرات الدولة، وعلى التوازى لا أرى أيضا الإبقاء عليها بنفس حالتها المزرية مكتسبات اشتراكية مطلوب التمسك بها!!
لذا فقد تابعت كل قضايا الطعن على عقود الحكومة والقطاع الخاص بعين المراقب المهتم بحالة سياسية ورؤية بلد اقتصادية فى مواجهة قضايا مهمة أيضا تخص الحفاظ على المال العام وعدم إهدار مقدرات الدولة، وهنا لا أستطيع الجزم بأنه لم يكن هناك نسب من الفساد فى تلك العقود والمبيعات، ويجب أن يحاسب على قدره وبحالته الخاصة دونما التعرض لمنهج تخلص الدولة من أعبائها ببيع القطاع العام الخاسر الذى ترهل وتتحمل الدولة أرقاما كبيرة فى ميزانيتها لجبر الخسارة والوفاء برواتب العمال والموظفين!!
ولقد تابعت أيضا وضع العصا فى العجلة الذى يقوم به بعض المحامين الذين يبحثون عن الشهرة، أو عامل مفصول لسبب أو لآخر، أو حتى سياسى يريد أن يبنى مجدا على حساب إدارة محفظة الوطن الاقتصادية، وهنا كان مسار التعجب والسؤال: هل من حق كل عابر سبيل أن يطعن على عقد بين طرفين؟! وهل يحق لطرف ثالث غير مذكور أن يطعن على تعاقد بين طرفين؟!
ولقد آلمنى كثيرا أن الطعن على عقود بيع الشركات يأتى بعد أن تكون تلك الشركات تم طرحها فى البورصة وأصبح ملاكها آلاف المصريين الذين ليس لهم ذنب فى قصور عقود البيع الأولى!! وأيضا تلك الأراضى التى بيعت لمستثمرين أقاموا المدن وعمروا واقتحموا الصحراء ثم باعوا الشقق لآلاف المصريين فتحول العقد الأساسى بين الحكومة ومستثمر إلى عقد معنى به آلاف المصريين!!
لذا فإننى أساند ذلك القانون الذى أصدره السيد الرئيس عدلى منصور، والذى ينص على عدم أحقية الطعن لطرف ثالث على عقود بين الحكومة ومستثمرين وقصر الطعن على طرفى العقد فقط أو أى صاحب حق فيما خص التعاقد، مع إلزام مجلس الدولة بمراجعة العقود قبل التوقيع عليها، وهنا تم إنقاذ الاقتصاد من الطعون الكيدية وتعطيل التعاقدات والإساءة لسمعة مصر دوليا وهروب المستثمرين الذين ليس لهم ذنب فى فساد مسؤول أو ضعف إمكاناته فى التقييم، ومن المعروف أن كثيرا من تلك العقود معروضة الآن على المحاكم الاقتصادية الدولية مما يعرض الحكومة المصرية لغرامات وتعويضات بالمليارات، وآخرها قضية أرض سياج، التى حكم فيها بتعويض 400 مليون جنيه على مصر بسبب انتزاع الأرض بعد تخصيصها.
والجدير بالذكر أيضا أن حق الطعن على شبهة فساد المسؤول المعنى بتحديد بنود التعاقد مكفول للجميع وأمام محاكم الأموال العامة، وحينما يحكم بتورطه فى فساد وتواطؤ هنا يعاد النظر فى العقد وبذلك كفل القانون حقوق الطعن ولكن من زاوية أخرى.
قد يكون القلق على التواطؤ فى العقود أيام نظام مبارك مفهوما فى ظل نظام استبدادى ومجلس شعب مزور وحكومة غير فعالة وليس لها ولايتها الحقيقية وشخصيتها وتتولى تنفيذ أوامر مبارك، لكن الآن فى ظل دستور أقره المصريون بكثافة عالية ورئيس منتخب ومجلس شعب حر قد تكون فرص إهدار المال العام شبه منعدمة، وعلينا أن نعطى الثقة لحكوماتنا كى تحدد سياساتها وتنفذها دون ابتزاز أو تخوين وعلينا مراجعتها ومراقبتها دون تعطيل الاستثمار وتطفيشه!!