فى مذكراته المهمة يتحدث عالم الجيولوجيا والمفكر الراحل الدكتور رشدى سعيد، عن عالم مصرى أمريكى حمل حفنة من الرمال فى حقيبته، وتجول بها إلى دول خليجية منها السعودية، قائلاً إنها من القمر وجاء بها رواد الفضاء الأمريكيون الذين صعدوا إلى القمر، وكان غرض «العالم المصرى الأمريكى» هو إغراء السعودية بتمويل رحلات الفضاء الأمريكية، مقابل إطلاق الأذان فى الرحلة المقبلة، أو مشاركة شخصية «سعودية» فى هذه الرحلة.
كان ذلك بيعا للوهم من هذا «العالم»، كما أنه كان يعبر عن مشاعر دفينة بأن الذين يتوجه إليهم بهذا الوهم لا يعيرهم أى احترام، وبدلا من تقديم خبرته العلمية لصالح تقدم هذه الدول تصور أنه يدغدغ عواطف قادتها بقصة الأذان، ويذكرنا الدكتور رشدى سعيد بهذه القصة ببعض الذين يبيعون الوهم فى قضية مياه النيل وأزمة مصر معها بعد بناء إثيوبيا لـ«سد النهضة»، حيث يقترح البعض نقل المياه من نهر الكونغو وأن هذا المشروع سينقل 112 مليار متر مكعب من نهر الكونغو إلى نهر النيل.
ومنذ طرح هذا المشروع قبل شهور، سألت فيه السفير معصوم مرزوق، وكيل وزارة الخارجية السابق، وللعلم هو واحد من الخبراء القانونيين الكبار فى قضية المياه، وتولى هذه المهمة أثناء خدمته فى وزارة الخارجية، كما أنه شغل منصب سفير مصر فى أوغندا، وبالتالى فهو كان فى قلب كواليس علاقات مصر مع دول حوض النيل، ومشاكل مصر مع قضية المياه، قال السفير معصوم، إن مشروع نهر الكونغو وهم كبير يتم بيعه دون معرفة كاملة بأبعاده القانونية التى تتطلب موافقات من دول أفريقية، هذا بخلاف الأبعاد الجغرافية الأخرى التى يستحيل معها تنفيذ المشروع.
وفى هذا السياق، جاء المقال المهم للكاتب والباحث أحمد السيد النجار، رئيس مجلس إدارة الأهرام، أمس، الذى يقول فيه، إن نقل مياه نهر الكونغو إلى مصر عبر حفر مجرى لنهر جديد يوازى نهر النيل لمسافة قد تصل لأكثر من خمسة آلاف كيلو متر، ورفع المياه من نهر الكونغو إلى هذا المجرى الجديد، هو فكرة خيالية قد تكون مسلية، لكنها لا علاقة لها بالواقع، سواء من زاوية تكاليف حفر المجرى والوقت الذى سيستغرقه، وتكاليف رفع المياه إليه، وضمان تدفقها بعمليات رفع متتابعة بسبب الطبيعة الجغرافية للأرض ووجود مرتفعات ومنخفضات فيها، ويضيف «النجار» أن المشروع يتطلب موافقة الكونغو الديمقراطية وجمهورية الكونغو وتشاد وأفريقيا الوسطى والسودان، ويتطلب ضمان الاستقرار السياسى والأمنى فى تلك الدول حتى لا يتعرض المشروع والشركات المنفذة له ومعداتها للتخريب أو التدمير أو السطو، وهو أمر يعد وحده مانعا كافيا لأى تفكير فى هذا المشروع.
فى مقال «النجار» وكذلك ما ذكره لى السفير معصوم مرزوق حقائق كثيرة حول هذا المشروع «الوهم»، وبالتالى فإننا أمام وضع مؤلم فى قضية المياه، تتطلب أن نبحث لها عن حلول خلاقة، وأن يتم وضع هذه القضية فى عهدة رجالها الحقيقيين، والمؤكد أنها ستكون «أم التحديات» أمام رئيس الجمهورية المقبل باعتبارها قضية أمن قومى بالدرجة الأولى، فها هى «إثيوبيا» تمضى فى طريقها، ولا يبدو فى الأفق حل قريب للأزمة.