يجب على المرء أن يتمتع بإرادة من حديد حتى يستطيع مقاومة معزوفة الإلحاح الإعلامى التى تنبعث يوميا فى جميع المجالات، من أول مساحيق الغسيل وأكياس الشيبسى حتى مذيعى البرامج ومرشحى الرئاسة، فالقصف الإعلامى لا يتوقف لحظة عن الدعاية لهذا المنتج أو ذاك الرجل، ولأن أهالينا قديما قالوا «الزن على الودان أمر من السحر»، فلك أن تتخيل حجم الخديعة التى نسقط فى مطباتها فى كل لحظة!
أعلم طبعًا أن النظام الرأسمالى ينهض على إنتاج السلع الموجهة للسوق، وبالتالى ينبغى الترويج لهذه السلع حتى يقبل عليها الناس فيشتروها وتزيد أرباح صاحب المصنع أو الشركة، وقد حقق الأمريكان طفرة مذهلة فى فنون الترويج والدعاية لكل شىء، لدرجة أن شركة سجائر اتفقت مع النجم كلارك جيبل فى ثلاثينيات القرن الماضى على أن يظهر فى أحد مشاهد الفيلم الذى يقوم ببطولته وهو يدخن سيجارة من إنتاج الشركة، وهكذا راج نوع السجائر التى يدخنها النجم وانتشر حتى مُلئت جيوب أصحاب الشركة بأرباح طائلة! ولك أن تتخيل كيف وصلت فنون الإلحاح اليوم!
لا مانع بطبيعة الحال من ضرورة العمل على الترويج للبضائع والأشخاص بأساليب مبتكرة، لكن المشكلة تكمن فى أن الإلحاح للترويج لسلعة ما بوصفها جيدة غالبًا ما يكون فى غير محله بكل أسف، ويبدو ذلك أكثر فى المنتجات الخاصة بالإبداع، ففى لحظة تجد أغنية معينة قد استحوذت على أذان الناس رغما عنهم، فيسمعونها فى الميكروباص أو الراديو أو التليفزيون أو فى المقهى، لكن لأن الأغنية لا تحمل فنا حقيقيا بين جنباتها سرعان ما يهجرها الناس حين «يلحون» عليهم بأغنية جديدة. (هل تذكر لولاكى؟)!
الأمر نفسه مع الأدب، فكم من رواية انتشرت ورصت فوق الأرصفة واقتنصت مساحات معتبرة من الصحف، وتحولت إلى أفلام ومسلسلات، لكنها محرومة من نعمة الأدب الجميل والرفيع (تذكر ما كان يكتبه إسماعيل ولى الدين)، وكم من الكتاب نالوا شهرة زائفة (سمير رجب وإبراهيم نافع مثلاً).
أما الآن فيبدو أن موسيقى الإلحاح تعزف بقوة بعد أن تحولت مؤقتا نحو قصر الرئاسة!