اليوم نعيش مع شهادة جديدة للدكتور محمود جامع على علم من أعلام الدعوة الإسلامية المعاصرة وهو العالم الربانى الشيخ محمد متولى الشعراوى، الذى ملأ الدنيا كلها علماً وحكمة وفقها وكرما.. وما زالت كلماته يتردد صداها رغم مفارقته الحياة منذ سنوات طويلة.. والغريب أن كل من يستمع لكلمات الشيخ الشعراوى–ولا يعرفه–يظنها قيلت اليوم أو بالأمس لحيويتها ونضارتها.. وسر ذلك الصدق مع الله، واستواء الظاهر مع الباطن، وأن هذه الكلمات خرجت من قلب حى نابض بالإيمان والتقوى.
ويعد الشيخ الشعراوى ممن قدم الإسلام للناس حياً قوياً نابضاً فتياً، وقد جمعت د.محمود جامع بالشيخ الشعراوى صداقة متينة منذ الأربعينيات، ويعد د. جامع سبباً من أسباب توثيق العلاقة بين الشعراوى والسادات.. وإليكم هذه الشهادة الإيمانية والطريفة والثرية فى الوقت نفسه لتعلقها بعالم العصر الشيخ الشعراوى.
سألت د.محمود جامع منذ عدة سنوات، كيف تعرفت على الشيخ الشعراوى وكيف بدأت العلاقة بينكما.. فرد قائلاً:
أنا أعرف الشيخ الشعراوى من الأربعينيات حينما كان مدرساً فى معهد طنطا الأزهرى، وكنت وقتها طالباً فى طنطا الثانوية، وكان يشجعنا بخطبه الحماسية على الخروج للمظاهرات ضد الإنجليز، وكان خطيباً حماسياً من الطراز الأول، وكنا نقوم بمظاهرات فى طنطا باستمرار.
وفى إحدى المرات قبض على مع مجموعة من الطلبة، ولم يقبض على الشيخ الشعراوى، ووضعونا فى قسم طنطا بتهمة التظاهر والإخلال بالأمن.
وكان الشيخ الشعراوى يعرف رموز الوفد فى القاهرة، فأحضر المحامى الكبير أ/ مكرم عبيد باشا الذى ترافع عنا مرافعة رائعة باللغة العربية الفصحى.. واستشهد فيها بآيات كثيرة من القرآن الكريم، وكان رجلاً وطنياً بحق.
فلما تم الإفراج عنا من سراى المحكمة، قمنا بمظاهرة صاخبة وحملنا الأستاذ / مكرم عبيد على أعناقنا، ونحن نهتف «يحيا الشيخ مكرم».
ومع مرور الأيام وتكرار المظاهرات والاحتجاجات توثقت صلتى بالشيخ الشعراوى.
سألته: هل كان الشيخ الشعراوى وفدى الهوى والانتماء فى شبابه؟
نعم.. كان الوفد هو القوة السياسية الأبرز فى المجتمع.. ورائد التحرر السياسى من سلطة الإنجليز وأكبر دعاة الديمقراطية فى مصر.
وكان الشيخ الشعراوى قبل تخرجه يحب النحاس باشا ويحترمه ويقبل يده، فلما تخرج فى الأزهر وجد من العيب أن يقبل يد النحاس وهو عالم أزهرى إسلامى فسلم عليه باليد فقط.. ولكن النحاس «شخط فيه».
وقال: «بوس إيدى يا ولد»، فاستحى الشيخ الشعراوى وقبل يده.
والشيخ الشعراوى رجل ربانى كان يقدم دوماً بين يدى طاعته قربى وقربان، وكلما طاف بالكعبة مرة وزع صرراً من المال تأسياً ببعض علماء السلف، وقد كان د/ محمود جامع شاهدا على قصة طريفة فى ذلك حيث قال لى:
حينما كنا فى الحرم المكى.. وكان الشيخ الشعراوى يحمل صرراً صغيرة من الأموال يعطيها للفقراء فى كل مرة يطوف فيها حول الكعبة، وكان يعطى كل من يسأله، وقد يعطى الرجل الواحد عدة مرات.
وفى مرة من مرات الطواف جاءه رجل ممن أخذوا هذه الصرر.. وقال:
«يا مولانا أنا أخذت منك الصرة والصدقة فى الطواف السابق بركة فقط.. وأنا فى هذا الطواف أردها إليك.. فأنا سفير ليبيا فى السعودية».
فضحك الشيخ الشعراوى لهذا الموقف كثيرا.
وقد قلت للدكتور محمود جامع: كيف تعرف الشعراوى على السادات واقترب منه، ومن الذى كان همزة الوصل فى ذلك؟فأجاب بثقة:
أنا الذى عرفت الشيخ الشعراوى على السادات، وكان ذلك فى منزلى فى طنطا، وقد أيد الشيخ الشعراوى نفسه كلامى فى الكتاب الذى أصدرته أخبار اليوم عن حياته وحاوره فيه الصحفى محمد أبوالعينين.
وسألته: لماذا إذن كانت علاقة الشعراوى بجيهان السادات سيئة ومتوترة؟فأجاب:
لم تكن العلاقة بينهما متوترة فى البداية.. ولكنها توترت جداً بعد موقف عصيب وقع بين الشيخ وجيهان السادات، حينما كانت سيدة مصر الأولى.
فقد قالت جيهان للشيخ الشعراوى: أريدك أن تعطى محاضرة فى شهر رمضان لنساء نوادى الليونز والروتارى.
فقال لها: موافق.. ولكن بشرط أن يحتشمن فى لبسهن، وأن يكون مظهرهن لائقاً بمحاضرة دينية.
فقالت له: ماشى.
وفعلاً ذهب الشيخ الشعراوى إلى المحاضرة، ولما جلس على المنصة فى نهار رمضان، وجد الحاضرات فى منتهى التبرج.. وبعضهن تدخن السجائر فى نهار رمضان.. فغضب غضباً شديداً وأصر على مغادرة القاعة دون إعطاء المحاضرة بعد أن قال لجيهان: «الاتفاق لم يكن هكذا».
قلت للدكتور جامع: لماذا أصر الشيخ الشعراوى على هذا الموقف.. وهل سألته عنه بعد ذلك.. فأجاب:
نعم سألته عن هذا الموقف بالذات.
فأجابنى قائلاً: «يا واد يا محمود حسيت إنى اتقرطست « (أى اتخدعت) «ودمى غلى وفار» (أى غضبت غضباً شديداً لم أتمالك فيه نفسى).
سألته: وماذا فعلت جيهان بعد ذلك وكان معروفاً عنها الاعتداد بنفسها؟
لقد كانت غاضبة أشد الغضب.. حيث إنه أهانها ضمنياً أمام علية القوم.. ولذلك كانت دائماً تردد مع الذين تثق فيهم: لابد أن يخلع هذا الشيخ من الوزارة.. وفعلاً لم يبق فيها طويلاً.. ولم يكن يلقى لذلك بالاً.. فهو لم يكن يهتم بالمناصب.
قلت للدكتور محمود جامع: كل الناس تعرف بلاغة وفصاحة الشيخ الشعراوى.. لكن القليل هم الذين يعرفون أريحيته وشهامته ورجولته.. فما هى شهادتك على ذلك؟
نعم.. فقد كان الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق يعيش فى شقة فى الدور الخامس فى منيل الروضة ولم يكن فيها أسانسير.. وكانت هذه شقته منذ شبابه ولم يغيرها حتى بعد أن أصبح شيخاً للأزهر، فقد كان زاهداً ورعاً.
فلما كبر به السن وكان مريضاً فى آخر حياته حينما كان شيخاً للأزهر، قال للدكتور على السمان:
الشيخ الشعراوى كانت عنده شقة واسعة فى الدور الثانى من وزارة الأوقاف.. وهو الآن بنى فيلا لنفسه ولا يعيش فيها.. فمن يقنعه بتركها لى.
فقال له السمان: عندى من يقنعه بذلك.. إنه الدكتور محمود جامع، فلما جاءنى وعرض على الأمر قلت له: الشعراوى لن يتأخر عن الشيخ جاد الحق أبداً.
ولما ذهبت للشيخ الشعراوى وافق على الفور وكتب تنازلاً عن الشقة بخط يده إلى رئيس الوزراء.. وأعطيت هذا التنازل للدكتور على السمان الذى ذهب به فوراً لرئيس الوزراء الذى حوله إلى وزير الإسكان فى اليوم التالى.
وإذا بنا نفاجأ فى اليوم التالى بموت الشيخ جاد الحق.. فلا هو أخذ الشقة ولا بقيت للشيخ الشعراوى.. ولكن ضمتها الأوقاف إليها.. وهذا من عجائب الأقدار والزمان.
قلت للدكتور جامع: بعض أبناء الحركة الإسلامية يظنون أن الشيخ الشعراوى كان ضعيفاً فى الحق أو مداهناً للسلطة، وطالما آذوه فى السبعينيات ولم يلتفت إلى علمه وفضله، ولم يدركوا قدر هذا الرجل إلا بعد مماته.. فهل كانت هناك مواقف فى الصدع بالحق فى وجه الحكام فى حياة الشيخ الشعراوى؟
قال د/ محمود جامع:
الشيخ الشعراوى ظلم فى عصره وقد رد الله مكانته وقدره.. وفى كل يوم يعرف الناس فضله وسبقه، وأنه كان سابقاً لعصره فى كل شىء، أما بالنسبة للصدع بالحق فله مواقف كثيرة فى ذلك.. وقد كان لا يخشى فى الحق لومة لائم.. ولكنه كان مفطوراً على أن يسوق ما يريد من الحق والعلم فى ثوب من الأخلاق الكريمة ولا يتجاوز مع أحد.
وأذكر أنه عندما قال الرئيس السادات فى آخر حياته فى إحدى خطبه عن الشيخ المحلاوى: «إنه مرمى مثل الكلب فى الزنزانة» غضب الشيخ الشعراوى غضباً شديداً ورفع سماعة التليفون وطلب موظف التلغراف وقال له: «اكتب يا بنى هذا التلغراف: رئيس الجمهورية محمد أنور السادات «الأزهر لا يخرج كلاباً أو حيوانات ولكنه يخرج علماء ودعاة» إمضاء/ محمد متولى الشعراوى.
وأرسل التلغراف فور سماعه لهذا الخطاب فلم ينتظر حتى اليوم التالى ليرسله.
قلت له: رغم أن الشيخ الشعراوى كان عالماً وقوراً ومهذباً، فإنه كان يحب النكتة أو الإفيه، كما يقول العوام فى مصر.. وكان يعشق النكتة ويحسنها ويتذوقها من الآخرين.. فما رأيك فى ذلك؟.. وهل شهدت شيئاً من ذلك؟
قال: نعم.. فقد كنا سوياً فى المسجد الحرام.. ورأته تحيه كاريوكا الراقصة الشهيرة، التى اعتزلت وقتها الرقص ولبست الحجاب.. وكانت تلبس حجاباً سابغاً أبيض اللون.. وكانت هيأتها فى منتهى التدين وقد ظلت بهذا الحجاب حتى نهاية عمرها.. فلما رأت الشيخ الشعراوى هناك ظلت تنادى عليه وهو لا يسمع.. فدخلت فى الزحام حتى جاءته.. وهى تقول:
يا شيخ شعراوى بح صوتى وأنا أنادى عليك.
فقال لها: معذرةً.. والله لم أسمع.. وكان يكلمها وهو ينظر إلى الأرض.
فقالت له فى جرأة : أنظر إلى حتى تعرفنى.
فلما نظر إليها قال: معذرةً أنا لا أعرفك.
فقالت له فى عتاب مرير: أنا تحية كاريوكا.. كيف لا تعرفنى؟
فقال: معذرةً.. لو عرفتك لأتيتك ولو رأساً.. وهذه تحمل معنى «ولو رقصاً» بالمصرية.
فضحكت وضحكنا.. ثم سألته عن بعض المسائل وانصرفت.
ولكن ما هى أهم كلمة جامعة سمعتها منه، فقد كان عبقرياً فى تلخيص القضايا الكبيرة فى كلمات قليلة؟
رحمه الله.. فقد كان يلخص كل القضايا فى كلمات بسيطة.. ومن أهم الكلمات التى أعجبتنى أنه سئل عن النقاب فقال: «لا يفرض ولا يرفض».. ملخصاً رأيه فيه فى هذه الكلمات الرائعة والدقيقة معاً.
رحم الله عالمنا الجليل العظيم الشيخ الشعراوى الذى ينتفع الناس بعلمه حتى اليوم.. ويعيش الناس مع كلماته وكأنها قيلت بالأمس من فرط صدق الرجل مع ربه ونفسه.