محمد مصطفى موسى

ثورة عقل لا ثورة «جلا جلا»!

الخميس، 08 مايو 2014 07:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"اقرأ باسم ربك الذى خلق".. ونزل الروح الأمين على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذا يتعبد فى غار حِراء، يناجى فاطر السموات والأرض حنيفًا، وما هى إلا أيام حتى شرع يدعو خلصاءه سرًا، ثلاث سنوات، قبل أن يجهر بالحكمة والموعظة الحسنة.

مع الجهر تحفزت قريش للخطر، إن دعائم الوثنية ترتج، والسطوة السياسية والاقتصادية لسادة القوم تتصدع، فشن الكفار حربًا على الدين الوليد، بدأت بالخلاف والشقاق إذ اشترطوا أول الأمر معجزة خارقة، ليتركوا ما وجدوا عليه آباءهم.

واقعيًا كان القرشيون، وهم من هم من البلاغة والبيان، قد أقروا بأن القرآن "معجزة المعجزات"، فبناؤه اللغوى المتين لا يبلغه بشر، فإن به لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وأعلاه لمغدق وأسفله لمثمر، يعلو ولا يعلو عليه، غير أنهم عمدوا إلى الجدال، فإذا أسقط بين يدى الصادق الأمين كذّبوه وسفهوه، أما إذا أتاهم بمعجزة راوغوا وداهنوا مثلما فعل بنو إسرائيل إزاء أمر الله، أن اذبحوا بقرة، وكما شأن دولة الاحتلال منذ مفاوضات مدريد، قبل أكثر من عشرين عامًا مع أشقائنا الفلسطينيين.

على أن اشتراط قريش معجزة لا يؤخذ باعتباره محض مراوغة فحسب، فالأمر يتسق تحقيقًا مع بداءة التفكير وطبائع البشرية، فى زمن كانت الخرافات فيه عمادًا ركينًا من أعمدته، وفى مجتمع يقرأ الطالع، ويستفتى العرّافات ويلوذ بالسحرة، ويستهم «أى يقترع بالسهام» قبيل القرارات الحاسمة.

ولم يخذل الله المصطفى صلى الله عليه وسلم، تنزلت الآيات: «اقتربت الساعة وانشق القمر».. ورأى الملأ من قريش القمر شقين، لكن قلوبًا عليها أغلالها، لم تكن لتخشع، قالوا: "إن هذا لساحرٌ مبين"، وعلى مدى عمر الدعوة أوتى النبى معجزات أخرى، كتفجر الماء بين أصابعه، والإسراء والمعراج، خروجه مهاجرًا وقد جعل الله من بين أيادى المتربصين به سدًا ومن خلفهم سدًا، لكن معجزاته عليه السلام، تعد فى مجموعها معجزات ظرفية، أقرب إلى «الكرامات» التى قد يفترض البعض أن ثمة ما يضاهيها لدى الأولياء الصالحين، أو ربما ما يفوقها لدى أولى العزم من الأنبياء.
أما لماذا لم يؤتَ النبى معجزة خارقة كبرى؟.. ألم يكن حريًا بالخوارق أن تستجلب إيمان الكثيرين فى تلك الفترة؟

الأمر يُعزى فيما يبدو أن الرسالة المحمدية هى كلمة السماء الأخيرة، ما يستوجب أن تكون ذات "صلاحية ممتدة"، كونها ستخاطب البشرية فى مستقبل «تتعقلن» فيه أكثر، وتتمنطق خلاله معايير الحكم على الأشياء، فلا ارتكان إلى ما وراء المحسوس، أو تحليق فى بخور الدجالين، أو «دروشة» بنبوءات العرافين، أو «مناغاة» لطفولة غافلة بحيل ضد المألوف.

إذن.. كانت هناك معجزات ما، لكنها كانت على الهامش، إن صح التعبير، معجزات لم تكن عنوانًا أو متنًا، فالأصل هو العقل، ولا إيمان بغير استدلال، وهكذا كان الابتداء: «اقرأ» أمرًا ودعوة وشحنًا للطاقات، وبعدئذ، اسم الله الذى خلق الإنسان من علق.

هذه آية استهلال ذات نكهة علمية خالصة، استساغتها البشرية بعد أربعة عشر قرنًا، فانحنت خشوعًا عن اقتناع.

رسالة إلى العقل وبالعقل، لا إلى ما يخرق ثوابت العقل، رسالة ليست للجهلة الغوغاء ممن يفغرون أفواههم من فرط دهشة، أو بالأحرى من فرط بلاهة حين ينظرون ساحرًا يهتف: «جلا جلا» ثم يُخرج أرنبًا من قبعة!

ومثلما لم تكن الرسالة ضد المألوف، كان الرسول عليه الصلاة والسلام.. رجل بسيط يمشى فى الأسواق، «وسطي» فى مظهره وهيئته، فلا هو قصير ولا فارع الطول، ولا هو أسمر داكن ولا أبيض أبلج، ولا هو قوى شديد، ولا واهن ضعيف، ولا هو بدين جسيم ولا نحيل هزيل، وإنما رِبعة فى ملاحة واتساق.. وكذلك كان مسلكه، يأكل من عمل يديه آخذًا بالأسباب، لم تُلقِ السماء إليه كنزًا، أو يجعل الله له جنة، يأتيه الوحى لكنه يشاور أصحابه فى أمور الدنيا فيتحرى الأرجح، وذاك فيما يبدو لحكمة ارتأت إعلاء مناهج التفكير التى لا تستطيب مذاقات ما يمرق عن الموضوعية.

وهكذا.. كان محمد عليه السلام ثورة عقل، ضد الجهالة والجاهلية والبلادة والخرافات والسحر والشعوذة والعرافين والدجالين والخوارق والطلاسم.. لم يقل: اتبعونى فأنا المشروع، أو المنهج، أو المنقذ المخلص والبطل، لكنه قال: اتبعوا الحق والعدل ومن قبلهما العقل، اعبدوا الله بعقولكم وقلوبكم معًا، إن سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج تدل لا محالة على العليم القدير، فإن تدبرتم اقتنعتم وإن اقتنعتم تبلغون.. وبذا أصبح خارقًا لكن للخوارق، فاخترقت رسالته القرون، قرنًا وراء قرن.

لم يستتر فى برج عاجى متواريًا والناس فى أودية الظنون يهيمون، أو يضع على وجهه قناعًا يمنحه مهابة زائفة، أو قداسة وهمية، مثلما كان الفراعنة يتقنعون بأقنعة قطط ونسور، فإذا خرجوا لرعاياهم، انخدع الغوغاء منهم معتقدين أنهم مقدسون و"فوق بشريين" دون أن يبصروا أن مظهرهم الرث أجدر بالسخرية وأحق بالرثاء.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة