لم يعد للاشتراكية وجود حقيقى فى أى اقتصاد بالعالم، إذا استثنينا دولة مغلقة مثل كوريا تتخذه ذريعة للانغلاق السياسى، وبالضرورة لم يعد هناك جدوى من العدالة الاجتماعية بمفهومها الشعبوى القائم على مداعبة أحلام الفقراء بقدرتها على انتزاع أموال الأغنياء ومنحها لهم، وأصبحت صورة النظام «الفتوة» الذى يقيم العدالة العمياء، صالحة فقط فى الأفلام التجارية.
هذا الرأى الصادم لا ينفى أبدا ضرورة العدالة الاجتماعية بمعايير واضحة وآليات راسخة، وهذا لا يستقيم إلا بإنتاج حقيقى وقانون صارم وإدارة مخلصة واعية، والبعض الآن يروج لفكرة أن عبدالفتاح السيسى سيبدأ فترة رئاسته بالميل على رجال الأعمال والأثرياء، لاعتصار فوائض أموالهم ومنحها للغلابة، بعضهم يبالغ أيضا بوصفها «مذبحة» منتظرة، وفى رأيى أن تلك المبالغات لا تخلق من الرجل بطلا شعبيا بقدر ما تسىء إليه.
ويسعى أى رئيس عندما ينزل بقدميه إلى بحر الاقتصاد، لدراسة متأنية يعرف فيها إمكانياته وما هو متاح لديه ويتعرف على الهيكل الذى يشكل منظومة الأعمال والأموال والموارد التى بين يديه، وقد بدأ «السيسى» خطاباته الشعبية بالحديث عن أهمية العمل واتخذها شعارا لحملته، ولا يعتقد أى منصف أنه سيتورط فى قرارات متسرعة تنافى هذا الشعار، لأن المنطق والعدالة أيضا يفرضان عليه التسليم بأن من يعملون ويجتهدون ويربحون أموالا ليس ذنبهم أن الآخرين لم ينالوا نصيبهم من الثراء ربما لظروف خارجة عن إرادتهم أو كسلاً منهم.
رجال الأعمال - المتهمون أساسا بأنهم يساندون دخول السيسى غمار الرئاسة - يؤمنون بأن مصلحتهم دائما مع النظام السياسى، وتلك نظرية نفعية صريحة لا ينكرها أحد، وقد لا تعتبر مسيئة فى نظر بعضهم، إذ لا يتمنون أبداً أن يبدأوا خلافا صريحا مع رئيس الدولة القادم بعد ثورتين، مؤيدا بغالبية كبيرة، بعضهم كذلك مستعد لأن يدفع أكثر مما تتمناه الحكومة من ضرائب لكى لا تسير الأمور كما كانت منذ عام، وهذا لا يعنى بالضرورة أن مصالحهم تضررت بشكل مباشر فى عهد محمد مرسى، بل كان لهؤلاء مخاوف مشروعة على أرضية وطنية من مستقبل غامض، وحتى هذا النظام السابق رغم سذاجته فى التعامل مع تلك القضية انتبه لحقيقة أن أكثر من 60% من اقتصاد البلد قائم على القطاع الخاص ممثلا فى المؤسسات الكبرى ورجال الأعمال الذين يختلف جزء كبير منهم بشكل صريح مع أيديولوجية هذا النظام، لكنه بمجرد هذا الانتباه كان الوقت قد فات.
نعترف أيضا أن فئة أخرى من رجال الأعمال الذين انتفخت كروشهم بفعل تواطؤ ممنهج من الأنظمة السياسية، يرفضون التخلى عن جنيه من ثروتهم لإطعام محتاج أو كسوة عريان أو إنقاذ مريض، رغم أنهم يتقاسمون الدعم مع هؤلاء، بل وتمكنهم أموالهم من الحصول على امتيازات كبيرة لم يكونوا ليطالوها لولا تهتك القوانين وتنطع القائمين عليها، وهؤلاء يمكن محاصرتهم وانتزاع حقوق الدولة منهم، بقوانين حازمة وضمائر يقظة، رغم أنهم سيلجأون فى البداية للابتزاز والتهديد بوقف أعمالهم وتشريد عمالهم، لكن دروس التاريخ القريب تقول إن أى صاحب أعمال لن يهون عليه أن يُطفئ أنوار مصنعه وشركته ويغلق أبوابها هكذا بسهولة ليجلس فى بيته يتلذذ بالتشفى.
إذن لا أعتقد ولا أحبذ أن يترك الرئيس عبدالفتاح السيسى من حوله يروجون لأفكار عنترية سترفع سقف الطموحات لدى الناس دون أساس واقعى، فهو جلس مع رجال الأعمال واستمع لهم وسمعوا له، عليه أن يشجعهم على العمل دون أن يعطى انطباعا أنه جاء بسيف الحجاج بن يوسف ليقطع رقاب المخالفين فى وجهات النظر، هو لديه حلم بأن يشعر الناس بالرخاء وهذا بالطبع لن يتم بإفقار الآخرين.. نعم هم عليهم دين لهذا الوطن لكى يدفعوه، لكن بقاءهم واستمرار أعمالهم وتوسعها يعنى أن فرصا للعمل ستخلق وبيوتا ستفتح ودعما للاقتصاد الوطنى، عليه أيضا أن يضعوا أمام أعينهم حقيقة أنه لولا هذا البلد وما منحهم من إمكانيات وموارد وتسهيلات وفرص، ولا ينكرون فضله وحقهم عليه، وعليه أن يتعاونوا مع النظام الجديد بإخلاص دون خوف، فبعضهم وللأمانة لو اخذ ربع ماله فلن تنقص ملذاته ولا عاداته المعيشية إلا كما تنقص الإبرة من مياه البحر.