حين سمع الصديق أبوبكر - رضى الله عنه - هذا السؤال القرآنى كانت إجابته المباشرة: بلى واللّه إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، وبالفعل ترجم الصديق تلك الإجابة عمليا وعفا عن مسطح، ذلك الذى كان سيدنا أبوبكر ينفق عليه ثم قطع نفقته، بعد أن خاض فى حادثة الإفك، بعد هذه الآية أعاد الصديق نفقته ولم يقطعها حتى توفاه الله، ربما لا أكون مبالغا لو قلت بيقين جازم أننى لا أتصور مسلما صحيح الإسلام تام الأهلية يعى معنى هذا السؤال ثم يملك أن يجيب بإجابة غير تلك التى أجاب بها الصديق رضى الله عنه، وهل يتصور أحد أن تكون إجابة مسلم عن هذا السؤال: نعم يا رب لا نحب أن تغفر لنا؟! هل يتخيل مخلوق أن يجرؤ مؤمن بالله واليوم الآخر على رفض المغفرة؟ أعتقد مستحيل، كل مسلم سيجيب: بلى يا رب نحب أن تغفر لنا، لكن ليس أى مسلم من سيستجيب للشرط ويعفو ويصفح. هذا اليوم الذى ينشر فيه هذا المقال وليلته له علاقة وثيقة بهذا المعنى، معنى المغفرة المرتبط بالصفح والعفو وسلامة الصدر.
حديث من أعجب أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، ذلك الذى رواه سيدنا معاذ بن جبل وصححه الألبانى ولفظه: «يَطَّلِعُ اللهُ إلى خَلْقِه ليلَ النِّصْفِ من شعبانَ فيغفِرُ لجميعِ خلقِه إلا مُشْرِكٍ أو مُشاحِن»، وفى رواية «فيغفرُ للمؤمنينَ، ويُملى للكافرينَ ويدعُ أهلَ الحِقْدِ بحقدِهم حتى يدَعوه». موطن العجب فى ذلك الحديث هو تلك المغفرة الشاملة التى تتبدى فى هذه الكلمات الجامعة: «فيغفر لجميع خلقه» و«فيغفر للمؤمنين».. تأمل الشمول والعموم الذى يجعل المرء فى حالة من الذهول أمام تلك المغفرة الواسعة ممن قال عن نفسه: «إن ربك واسع المغفرة»، يزيد تلك الدهشة أن هذه المغفرة على عمومها لم يُذكر عمل معين مرتبط بها، بل جعلها الله كهدية وعطية فى هذه الليلة الكريمة من ذلك الشهر الذى قال عنه النبى: «شهر يغفل عنه الناس»، فقط هناك شرطان ينبغى أن يتحققا فيمن تشملهم تلك المغفرة الواسعة، الإيمان بالله، ثم سلامة الصدر وترك الشحناء والبغضاء والحقد والغل والكراهية.
إذاً فهى مغفرة شاملة أيضا لكن الاستثناء لصنفين، أهل الشرك والكفر، وهذا مفروغ منه متحقق بقول الله: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء»، ثم أهل الحقد والشحناء والتدابر والتباغض، ويالها من مشاعر قاسية بخلاف أنها تحرم المرء من هذه الفرصة السنوية للمغفرة المجانية، فإن صدر الحاقد دائما ما يكون ضيقا حرجا مليئا بالحزن يمزقه اللهاث المسعور ويسيل لعاب طمعه على ما فُضل به غيره، وهو لا يرتاح أبدا لأنه يرى أن الكل لا يستحقون ما هم فيه، بينما هو وحده من يستحق، ولو أنه انشغل بأداء ما عليه واجتهد ثم ترك النتائج لمن يخفض ويرفع ومن بيده الضر و النفع لارتاح وأراح، أما لو ظل يمد عينيه إلى ما تمتع به غيره من عرض الدنيا الزائل، فإنه سيظل فى ذلك العذاب طويلا إلا لو جرب يوما أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو بالمناسبة شعور أجمل بكثير من الحقد والكراهية والشحناء، فلنجرب تلك المشاعر الليلة ولنتخلص من أسقام الحقد وأدران الغل وأوجاع الحسد ونستبدل كل ذلك بالطمأنينة والرضا وحب الخير للغير، فلتأتى عليك ليلة النصف من شعبان وأنت مؤمن سليم الصدر، وحينئذ أبشر بتلك المغفرة الشاملة التى لم تكن بفضل ربك من أولئك المحرومين منها بشرط أن تراجع قلبك وتطهره من الشحناء والتدابر، فلتعفُ اليوم ولتغفر وتصفح ولتفعل كل ذلك امتثالا لقول ربك: «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم» ولتجبه: بلى يا رب نحب أن تغفر لنا.