خلال حواراتى عبر وسائل التواصل الاجتماعى وندوات كثيرة مع شباب بشتى أنحاء مصر رصدت «حالة سخط» على النخبة السياسية والإعلامية، وصلت لدرجة اتهامهم بالخيانة، وتضليل الشعب، والسعى وراء مصالحهم الشخصية، وهذه ظاهرة تستحق التأمل، فالنخبة لم نستوردها من الصين، لكنها إفراز المجتمع وتجسد سماته السلبية والإيجابية، فالمجتمع خلال الأعوام الثلاثة الماضية شهد تحولات عميقة أعادت السياسة للشارع الذى كان يتحاشاها طيلة ستة عقود.
ولأن النخبة تُشكل المشهد السياسى والرأى العام، فقد اكتشف المصريون تناقض مواقف كثيرين، فارتفعت نبرة السخط الاجتماعى، خاصة أن النخبة المصرية أصيبت بأمراض الأنظمة السابقة فتكلست على مقاعدها، وسعت لمكاسب شخصية كالمناصب غير المستحقة، بل ووصل الأمر لدرجة تحول معها الجهاز الإدارى لمؤسسات عائلية يتوارثها الأبناء والأحفاد، لدرجة لم يعد معها الأمر مجرد مؤسسات فاسدة بل «فساد مؤسسى» يعمل وفق «قواعد مافيوزية»، بينما جرى تهميش ملايين الموهوبين والأكفاء، ولعل هذه المعضلة من أخطر التحديات التى تواجه الرئيس السيسى لتفكيك هذه المنظومة، وترسيخ «تكافؤ الفرص» لتجديد دماء المؤسسات.
كان عالم الاجتماع السياسى الإيطالى «بادتو»، أول من نبه لدور النخبة بالدولة الحديثة، بقوله: «إن المجتمع الصحىّ هو القادر على تجديد النخبة، بتأهيل الصفوف الثانية والثالثة للصعود للصف الأول، فلكل إنسان عمر افتراضى»، لكن المسؤولين بأواخر عهد مبارك ظلوا يعاملون الأجيال اللاحقة كأطفال حتى بلغوا الخمسين.
وهكذا أصبحت النخبة بكل أطيافها مسؤولة عن هذه الأزمة، فالليبراليون واليساريون مسؤولون عن الاحتقان الاجتماعى والسياسى، كما كان الإخوان مسؤولين عن إشعال فتيل الاستقطاب السياسى بمحاولاتهم التغول فى مؤسسات الدولة بحماقة وشبق للتسلط، يبدو أنه كان ضروريًا ليحسم الشعب أمره ويطيحهم، وحين يُكتب تاريخ التحولات التى انطلقت فى 25 يناير وصولا إلى 20 يونيو وما ترتب عليها، سيقال إن الإخوان طعنوا مصر فى الظهر، لكن النخب المدنية نحروها من الوريد إلى الوريد، بسلوكهم الأنانى وتفشى «تورم الذات» بينهم.
ولعل جريمة التحرش بسيدة وابنتها بميدان التحرير يوم إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة «واقعة كاشفة» تؤكد أن أثمن ما خسرناه خلال عقود هو «الإنسان»، فالحقيقة المّرة أن المصرى الآن لم يعد كما كنا نعرفه قبل عقود، ينشر التسامح والسلوك المتحضر والانحياز العفوى لكل ما هو إنسانى، دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو المعتقد، فكانت مصر «حالة كوزموبوليتانية» تحتضن الأوروبى والأفريقى والآسيوى، ولا تتأفف من اليهودى ولا المسيحى، ولا يضيق صدرها بالمخالفين فى الرأى أو العقيدة.
يبدو الحال الآن فى اتجاه معاكس، فقد شاعت مظاهر الهوس الدينى دون مردود أخلاقى فى المجتمع، وسادت بين المصريين أنماط سلوكية سلبية، لا تكفى معها المعالجات الأمنية والقضائية رغم أهميتها، لكنها تقتضى دراستها ومعالجة جذورها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة