تواجه العراق حالة فراغ حقيقى للدولة وانهيار للمنظومة الأمنية جيشا وشرطة، وانفتاحا على عنف طائفى محتمل بين طرفى المكون الرئيسى فى العراق، الشيعة والسنة، الدولة العراقية المنهارة والمأزومة هى دولة المالكى الشيعى المتحالف مع إيران وحزب الله والنظام السورى، وهو فى نفس الوقت يواجه المكون السنى بالقمع، كما هو الحال مع اعتصامات السنة فى الأنبار التى تم فضها بالقوة وقتل فيها عديدون. ليست أزمة المالكى وحده، ولكن أزمة أمريكا التى فشلت فى أن تبنى ديمقراطية فى البلاد كما زعمت، كما فشلت فى أن تبنى جيشا على النمط الغربى، وخرجت مسرعة من البلاد عام 2011 بدون مسؤولية، إذ إنها تركت الحالة التى اجترحتها بحماقتها ومحافظيها الجدد دون معالجة، مؤثرة الخروج من المأزق العراقى بأى ثمن. نحن أمام دولة جرى إعلان فكها دون فهم حقيقى لطبيعة سياقها الاجتماعى، فالشيعة أقلية وهم من أوهموا الأمريكان أنهم إذا جاءوا لاحتلال العراق فإن الشعب سيقابلهم بالورود نكاية فى الطاغية صدام حسين، بيد أن أحد أهم المخاطر أن تتولى الأقليات الحكم مسنودة بالقوى الإقليمية والدولية وليس بشعبها، وحينها فإنها ستكون خطرا على بلدانها وعلى نفسها، كما هو الحال مع الشيعة فى العراق، إنها عقدة العبد الذى تحر،ر وحين سئل عن أول ما سيفعله قال: سأشترى عبدا جديدا.. ليمارس تجاهه إحباطاته.
يذهب «حنا بطاطو» المؤرخ العراقى إلى أن القبيلة والعشيرة فى العراق هى أهم ولاء يشعر به العراقى، فهو أولا من قبيلة كذا أو عشيرة كذا، ثم تأتى الانتماءات الأخرى بما فى ذلك المذهبية، لم تستطع الحداثة أن تضعف الانتماءات القبلية والعشائرية فى العراق، وحين تم تهميش المكون السنى فى العملية السياسية وهو من كان يحكم العراق تقليديا، فإن قبائله وعشائره تحدت ذلك وواجهته بالاعتصامات الطويلة وبالاستعدادات بالسلاح حتى حانت لها الفرصة بالهجوم على الموصل والسيطرة عليها، ثم الاتجاه إلى العاصمة بغداد. القديم لا يموت، وحين أنهى بريمر بقرار حكم البعث وأعلن حل الجيش العراقى وأقر قانون الاجتثاث فإن هذه القوة اتجهت إلى العمل فى مواجهة الدولة الجديدة، وتحالفت مع الطريقة النقشبندية التى كانت أحد الأقنية التى دعمها نظام صدام حسين وسمح لضباطه بالالتحاق بتلك الطريقة، وهذه الطريقة ينتسب إليها عزة الدورى نائب الرئيس العراقى صدام حسين، وهى التى تقود المواجهة مع دولة المالكى متحالفة بالطبع مع دولة العراق الإسلامية المعروفة باسم «داعش». تصدير «داعش» إعلاميا وكأنها تسيطر على المشهد العراقى ليس صحيحا، وإنما هو محاولة وصم ما يجرى فى مثلث السنة القلق فى العديد من المحافظات العراقية بالإرهاب أو الانتساب لتنظيم القاعدة، لا ننفى وجود «داعش» بالضرورة، وإنما ليست هى المشهد كله، وإنما المشهد الغالب هو انتفاضة المكون السنى فى مواجهة المشروع الإيرانى المتحالف مع أمريكا لفرض خرائط للمنطقة لا تعبر عن مكوناتها الاجتماعية.
استغلال «داعش» والحديث عن أنها قادمة لمصر من جانب بعض وسائل الإعلام لا يبدو دقيقا، فمصر فيها جماعات عنف تتبنى أفكار «داعش» لكنها لا تملك صلة تنظيمية بها، ومن ثم إشاعة خطر «داعش» فى مصر لا يبدو موفقا، وليس صحيحا، كما أن «داعش» ليست الإخوان المسلمين، وإنما هناك اختلاف كامل بينهما، ومن ثم فإن الحالة المصرية لها خصوصيتها، وهى مختلفة تماما عما يجرى فى العراق، وإذا كان لنا فى مصر هنا عبرة فيما يحدث فى العراق فهى أن الدول تعبر عن مجتمعاتها، وأن تصور من يمتلك السلطة أنه يستطيع وحده أن يقرر لأمته بدون اعتبار لكل مكوناتها، فذلك تصور موهوم، عالم ما بعد الثورات العربية لا يقرر المتسلطون وحدهم مصائر أمتهم، وإنما يجب أن يقرروا جميعا معا.