لا يمكن أن نفهم المستقبل السياسى لمصر إلا على ضوء الخطوات المنتظمة التى قطعتها الثورة المصرية منذ انطلاقها فى 25 يناير، وفى ضوء المعطيات والمؤشرات والنموذج الذى صنعته، ففى فترة «التخمر الثورى»، وما تبعها من انطلاق ثورتين فى مصر خلال ثلاثين شهرًا، رسم الشارع المصرى دورة كاملة لحضوره السياسى، وتأثيره الكبير على مجريات الأمور، كطرف أول وأصيل فى المعادلة، وصنع ثورتين شعبيتين، وسارت هذه الدورة على النحو التالى:
1 - توقظ النخبة الشارع، وتعمق درجة وعيه، من دون أن يكون لها سلطان عليه، لأنها افتقدت أيام حكم مبارك الشبكات الاجتماعية والمشروعية القانونية والقدرات المالية التى تمكنها من التواصل المباشر والواسع مع الجماهير.
2 - لا تستطيع النخبة بمفردها أن تحدث التغيير العميق، والتحول الاستراتيجى فى المشهد أو الموقف أو الحالة. والمثال الناصع لذلك حركة «كفاية» التى رغم شجاعتها ومغامرتها، وانضمام عدد من الرموز الوطنية لها من مختلف التيارات السياسية، ظلت على مدى أكثر من ست سنوات مجرد جماعة احتجاجية ذات مواصفات خاصة، ولم تتمكن بمفردها من تحقيق هدفها فى «منع التمديد لمبارك والتوريث لنجله»، بل شهدت قبيل انطلاق ثورة يناير تصدعات وتشققات، وتراخت إمكانياتها إلى درجة أن كثيرين تحدثوا عن مرضها أو موتها وانقضائها تمامًا، لاسيما بعد أن ظهرت «الجمعية الوطنية للتغيير» التى تسلمت الراية، وانفتحت أكثر على الجمهور من خلال حملة التوقيعات على مطالب التغيير السبعة، والتى بلغت مليون توقيع قبل أشهر قليلة من ثورة يناير، والتى تجددت قبيل ثورة يونيو من خلال حملة «تمرد» التى جمعت توقيعات أكثر من 22 مليون شخص لسحب الثقة من حكم الإخوان.
3 - حين تنضم القاعدة الشعبية إلى ما تراه النخبة أو تقدره يحدث هذا التحول، وتضطر السلطة إلى الاستجابة للمطالب، مثلما حدث فى انتفاضة 18 و19 يناير 1977، أو تغادر الحكم نهائيًا إن أصر الشعب على هذا. وقد حدث فى المرتين بتدخل «القوة الصلبة»، وهى المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن، من أجل إجبار السلطة لتنزل على إرادة الشعب.
4 - حين تنحسر القاعدة الشعبية عن النخبة تقف الأخيرة عاجزة عن تحقيق مطالبها، وتعود السلطة إلى التجبر من جديد، أو الالتفاف حول المطالب التى كانت الجماهير قد نزلت الشارع من أجلها، بدعوى أن الثورة كانت مجرد انتفاضة، أو تعرض كيان الدولة نفسه للخطر.
5 ـ تبدأ النخب فى تحفيز وإيقاظ وعى الجماهير من جديد، مطالبة أو مناشدة إياها أن تنزل إلى الساحة من جديد بغية التغيير، وتسعى إلى تفنيد حجج وذرائع السلطة الجديدة.
ولم يكن الجمهور «كتلة متجانسة» فى هذه التجربة، بل امتزج فيه خليط بشرى، أغلبه سائل، حيث إن أغلب المحتجين لم يكونوا منتظمين فى أحزاب سياسية أو حركات اجتماعية أو جماعات دينية، وهم «الزاحفون» الذين يشكلون نموذجًا للحركات الاجتماعية، إلى جانب «متحدى السلطة»، ويمثلهم الأولتراس، إلى جانب البلطجية ومعتادى الإجرام فى فترات ما بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو.
وهذا الخليط، وفق التجربة المصرية، يمر بثلاث مراحل على النحو التالى:
أ - يتوحد الشارع السياسى المصرى حول هدف قصير المدى، بوسعه أن يشحذ الهمم، ويشحن الطاقات، ويأخذ بالأفئدة والألباب، لمدة معينة، فيندمج الناس على أشتاتهم فى كتلة واحدة، فتتحقق معادلة «الكل فى واحد»، ويؤمن الجميع بمبدأ «قوتنا فى وحدتنا».
ب - حين يتحقق الهدف القصير الأمد، وكان فى ثورة يناير إسقاط حكم مبارك، وفى ثورة يونيو إسقاط حكم الإخوان، يحدث الخلاف حول ترتيب المرحلة المقبلة، أو حول الأهداف الأبعد، وفى مطلعها كيفية بناء نظام سياسى جديد، ويتوزع الشارع بين أغلبية راغبة فى تحقيق الاستقرار، الذى يكون أحيانًا المصطلح السحرى للثورة المضادة، وبين أولئك الراغبين فى استكمال الثورة، منطلقين من أنها عملية تغيير جذرى، يجب ألا تكتفى برحيل الحاكم أو إسقاط نظامه، إنما ببناء نظام آخر يحقق كل مطالب الثوار، كاملة غير منقوصة. وبين الفريقين هناك من يؤمن بأن هذه المعركة لا يمكن الفوز فيها بالضربة القاضية، لأن الثورتين المصريتين كانتا ثورتين شعبيتين، بلا قيادة واضحة ومحددة ومتفق عليها، ولذا لم يصل الثوار إلى الحكم مباشرة ويطبقا ما طلبه الثوار، الذين كانوا أيضًا بلا استراتيجية متكاملة ومعلنة، يتم فرضها بقوة على من حاز الحكم.
ج - يؤدى هذا الخلاف، وهذا التوزع على الأهداف والوسائل، إلى تفكك الكتلة البشرية من جديد، وعودة كل طرف منها إلى أرضيته الأولى، ينطلق منها، وينافح عنها، وهو فى النهاية دفاع عن خليط من المصالح والمنافع والأيديولوجيات والمبادئ.
د - لا يعنى هذا أن الكل يعود إلى النقطة التى بدأ منها قبل الثورة، فالفعل الثورى يكون قد أدى دوره فى هز الكثير من الاعتقادات الجامدة، وأعاد صياغة بعض المصالح، وأعاد تشكيل بعض التحالفات، الأمر الذى يعنى إحداث قدر من التغيير إلى الأمام، لا يمكن لأى سلطة حصيفة أو رشيدة أن تنكره وإلا أعادت الثورة إنتاج دورة جديدة، أو موجة أخرى.
لا يمكن أن نقف على مسارات المستقبل السياسى فى مصر من دون فحص خيارات وانحيازات ومواقف خمسة أطراف متشابكة عناقًا فى أمور، ومشتبكة افتراقًا فى أخرى، تتسطر فوق خريطة المشهد العام، وهى: السلطة السياسية، والقوى الثورية والحزبية المدنية، وجماعة الإخوان المسلمين وأتباعها، وموقف القاعدة الشعبية العريضة، ثم موقف الأطراف الخارجية المهتمة بحال مصر ومستقبلها، دفاعًا عن مصالحها المستقرة منذ سنين طويلة.
إن السلطة فى مصر مخيَّرة الآن بين الحفاظ على النظام من خلال الجهد الأمنى الفائق تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الإرهاب»، وبين الانتصار لثورة 25 يناير 2011 بترجمة شعاراتها ومبادئها فى سياسات عامة واضحة المعالم، سواء كان هذا الانتصار فوريًا، أو من خلال عملية إصلاح متدرج تصحح تباعًا الخلل الهيكلى الذى يعانى منه النظام السياسى.
أما القوى الثورية فأمامها ثلاث طرق: الأولى، أن تتحالف مع السلطة فى المرحلة الحالية، أو تصمت على سياساتها حتى إن لم ترق لها خوفًا على الدولة، وإدراكًا منها أن هذه السلطة المنبثقة من «ثورة» 30 يونيو 2013 فى حاجة دائمة إلى غطاء سياسى قوى، والثانية أن تعود إلى الميادين فى مظاهرات احتجاجية جديدة قد تستغلها جماعة الإخوان المسلمين فى الضغط على أهل الحكم، أما الثالثة فأن تؤمن بأن الطريق الآمن لإثبات وجودها، وتحقيق أهدافها هو التجهيز للمنافسة القوية فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويكون عليها فى هذه الحالة أن تطرح بدائل راسخة فى المجالات كافة، وتقنع القطاع الأكبر من الرأى العام بأنها تشكل حلًا ناجزًا، أو وعدًا جديدًا لجموع المصريين.
وأمام الإخوان المسلمين ثلاثة خيارات أيضًا: الأول إلى الأمام، ويعنى قيام الجماعة بمراجعة أفكارها وأدوارها، وإبداء الاعتذار للمصريين عما بدر منها من فشل فى الحكم، وعنف ضد المجتمع، واستهداف لمؤسسات الدولة. والثانى إلى الخلف، وهو الاستمرار فى المواجهة العنيفة، المفتوحة والسافرة، ضد الدولة والمجتمع، وهو خيار انتحارى من دون شك بالنسبة للإخوان الذين لا قِبل لهم ولا طاقة بإمكانات دولة قديمة عريقة راسخة البنيان، لاسيما أن الأغلبية الكاسحة من الشعب ستقف مع السلطة فى مثل هذه المواجهة. والثالث المراوحة فى المكان، وهو خيار تحايلى تقوم الجماعة بمقتضاه بتعويم جزء صغير منها فى الحياة السياسية والاجتماعية، محاولة أن تحافظ على المشروعية والشرعية التى اكتسبتها بعد ثورة 25 يناير مع بقاء الجزء الأكبر منها «غاطس» يتعاون مع الجماعات التكفيرية والتنظيمات الإرهابية، بغية إنهاك أى نظام حكم قادم.
وأخيرًا تأتى القاعدة الشعبية العريضة، وهى الرقم الأهم فى المعادلة السياسية برمتها، لتتخير بين الاستقرار والرضا بما هو قائم أيًا كان، أو الإصرار على استكمال الثورة التى لا تزال ناقصة حتى الآن، سواء كان هذا الاستكمال بالاحتجاج المباشر فى الشوارع، أو بالوقوف ساعات أمام طوابير الانتخابات، لاختيار وجوه أو برامج ثورية، حال تبلورها واكتمالها.
وحاصل تفاعل هذه الخيارات التى تتلاقى فى بعض النقاط، وتتجافى فى بعضها الآخر، هو الذى سيشكل أبعاد المستقبل القريب، وربما المتوسط، فى مصر، مع الأخذ فى الاعتبار دور القوى الإقليمية والدولية التى ثبت أنها تؤثر، إيجابيًا وسلبيًا، فى الوضع الداخلى المصرى، لاسيما فى الأزمات العاصفة التى تواجه الدولة، وتخلق ذرائع أمام التدخل الدولى، أو تدفع بعض الأطراف للاستعانة بطرف خارجى مثلما يفعل الإخوان المسلمون.
د. عمار على حسن
مستقبل النظام السياسى فى مصر وخيارات القوى الفاعلة فيه
الأربعاء، 18 يونيو 2014 11:00 م
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالرازق يوسف رشدان
شكرا دكتور عمار