فى القرآن الكريم ارتبط مصطلح «الإصلاح» بثلاث قضايا، الأولى هى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ما عبرت عنه الآية الكريمة التى تقول: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب»، والثانية هى إحلال السلام والمودة بين الناس أو «إصلاح ذات البين»، وهو ما تظهره الآية: «لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما».
وفصّل الإمام عبدالحليم محمود فى هاتين الناحيتين، من دون أن يذكر ذلك مباشرة، فى كتابه «منهج الإصلاح الإسلامى فى المجتمع»، حيث انطلق من أن هناك دعوة دائمة إلى الإصلاح، وهناك من يعمل فى سبيله، من أجل تحقيق النهضة، ليتناول العناصر التى يقوم عليها الإصلاح الإسلامى فى الأسرة والمدرسة والجامعات والمجتمع الكبير، ويحددها من حيث الجوهر والمقدمات والثمار فى العلم والعبادة والجهاد والرحمة.
أما الثالثة فتتعلق بتولية الأكفأ، تطبيقا للحديث النبوى الذى يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «من ولى من أمر أمتى شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، قد خان الله ورسوله». ومفهوم الصلاحية لدى أغلب الفقهاء يرتبط بالكفاءة، أى أن يتم الاستعمال فى كل موضع أكفأ من يقدر عليه. ولعل ما جاد به ابن تيمية فى هذا الشأن يكون مفيدا ودالا، إذ يقر بأن الأصلح فى كل ولاية بحسبها. فالقوى لإمارة الجند حتى ولو كان فاسقا، فقوته للمسلمين وفسقه على نفسه. والتقى لإمامة الصلاة حتى ولو كان ضعيفا، فتقواه للمسلمين وضعفه على نفسه.
وكانت فكرة الإصلاح محور اهتمام رواد النهضة الإسلامية الحديثة، خاصة لدى جمال الدين الأفغانى وتلميذه محمد عبده، وقبلهما محمد بن عبدالوهاب. وهؤلاء هم رموز تيار لم ينقطع عطاؤه فى تاريخ الإسلام الحديث والمعاصر. وهناك سمات أربع لفكر الإصلاح العربى الإسلامى، كما يبينها رفيق العجم فى كتابه «أثر الخصوصية العربية فى المجتمعية الإسلامية»، أولها أن فكر الإصلاح الذى نشأ عند العرب والمسلمين حديثا لم ينفك عن بينة المعرفة المجتمعية القائمة والمتجددة بعمقها وأغوارها، وثانيها أن هذا الفكر قد تشعب إلى شعبتين، إحداهما اعتمدت على الذات والموروث الثقافى، والأخرى انطلقت من موروثها، لكنها تأثرت بما لدى الغير، أو بالوافد الثقافى، والثالثة أن هاتين الشعبتين لم يخرجا عن الخصوصية العربية فى طبعها ونموذجها، رغم الاختلاف الظاهرى بينهما.
أما الرابعة فإن حركة الإصلاح العربية لم تختلف عن نظيرتها الأوروبية فحسب، بل أيضا اختلفت عن حركة الإصلاح التى قامت بها طائفة العقليين من المصلحين الهنود، الذين كان همهم الأول منصرفا إلى الحركة الثقافية، وإلى التوفيق بين الإسلام وبين مطالب المدنية الأوروبية الحديثة. وإن كانت الحركتان قد اتفقتا على أن الإسلام دين عام وعالمى يناسب كل الناس، ويلائم جميع العصور والثقافات.
وقد شغل جمال الدين لأفعانى نفسه بسبل النهوض بالواقع الاجتماعى للعالم الإسلامى، أكثر من اهتمامه بالمسائل العقدية، وكان يقرن النصر بتحقيق الإصلاح السياسى والإصلاح الدينى فى آن، ورأى أن كلا منهما مكمل للآخر. وعلى النقيض من هذا اقتنع محمد عبده بأن الإصلاح الدينى والعلمى والتربوى يمكن أن يتم بمعزل عن الإصلاح السياسى، ومال إلى أن إصلاح الفرد والمجتمع مكمنه فى إصلاح المؤسسات التربوية كالأزهر والمدارس والمساجد وجمعية التقارب بين الأديان. وبينما كان الأفغانى سياسيا ومفكرا ثوريا، لا يقبل الحلول الوسط، وينظر إلى الشعوب الإسلامية من غانا إلى فرغانة باعتبارها كتلة واحدة متكاملة، كان عبده يردد: «خلقت لكى أكون مدرسا».
لقد كان الأفغانى يؤمن بأن الإصلاح يمكن تحصيله فى التو، شرط العمل من أجل بلوغه، أما الثانى فرأى أن الإصلاح عملية متدرجة، تتحقق بعد مدة، ولذا هادن الاستعمار الإنجليزى، خارجا على ثورية أستاذه الذى نادى بالكفاح ضد الاحتلال. وخالف عبده الزعيم أحمد عرابى الرأى حول التحول إلى الحكم النيابى الدستورى، محبذا البدء بالتربية والتعليم لتكوين رجال قادرين على القيام بأعباء الحكم النيابى، وتعويد الناس على البحث فى المصالح العامة، بما يقود فى نهاية المطاف إلى حمل الحكام على العدل والإصلاح.
وبلور عبده، بشكل أكثر جلاء، رؤيته المنحازة إلى التدرج فى الإصلاح فى طلبه من الأفغانى، وهما فى باريس عام 1883، أن يذهبا سويا إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحى، ليؤسسا مدرسة للزعماء، ويختارا تلاميذها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، يصبحون بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح فى بلدانهم، لكن الأفغانى، الذى كان متعجلا، رفض هذه الفكرة «الطوباوية»، التى أعيد إنتاجها، بشكل مختلف، ولمقصد مغاير، داخل الحركة الإسلامية، وهى تتأسس على تأويل ذاتى لحدث الهجرة النبوية الشريفة، ينزعه من سياقه التاريخى والاجتماعى.
وفى نظر عباس محمود العقاد فإن ما بين الأفغانى وعبده من اختلاف فى تقدير زمنية الإصلاح يعود فى نظر العقاد إلى «اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين، فأحدهما خلق للتعليم والتهذيب، والآخر خلق للدعوة والحركة فى مجال العمل السياسى والثورة الأممية»، وربما وزعت الفطرة كلا منهما على مسلك مغاير للآخر، فالأفغانى يعول على الجماعة، وينادى بالثورة، ويمارس السياسة من أوسع أبوابها، ويقطع بعدم التعاون مع المستعمر، أما عبده فيعول على الفرد، ويسعى إلى تأجيج العاطفة الدينية، ويتوخى التربية سبيلا إلى بلوغ الهدف ويكره على التوازى السياسة، فيستعيذ بالله من «ساس ويسوس»، ولا يرفض التعاون مع المستعمر إن كانت المصلحة تقتضى ذلك.
ويرى المفكر الجزائرى مالك بن نبى أن الوضع الأفضل يقتضى المزاوجة بين أفكار الأفغانى وعبده، ويقول: «لو استطاعت المدرسة الإصلاحية أن تقوم بتركيب أفكارها وتجميع عناصرها بحيث توحد بين أفكار الأصول التى ذهب إليها الشيخ محمد عبده، وبين الآراء السياسية والاجتماعية التى نادى بها السيد جمال الدين الأفغانى، لكان هذا سيؤدى حتما إلى طريق أفضل من مجرد مبادئ إصلاح العقيدة».
وقد تحقق هذا مع عبدالرحمن الكواكبى الذى اتبع فى آن عدة أساليب فى الإصلاح تراوحت بين الميل إلى القوة والثورة والاقتناع بالهدوء والانتظار وبينهما التدرج فى الإصلاح عبر تجهيز الرأى العام لقبول التغيير والإيمان بضرورته. وآمن الكواكبى أن الإصلاح الدينى هو الأصل والمنشأ لأى عملية إصلاح، سياسية أو اجتماعية، لأن الاستبداد يبدأ فى نظره دينيا ثم يمتد إلى المجالات الأخرى، وأن الدين إن صلح تصلح السياسة وغيرها. ولا يعنى هذا أن الكواكبى قد نادى بإرجاء الإصلاح السياسى حتى يتم إصلاح الدين، بل دعا إلى أن يتم الاثنان فى وقت واحد. وزاوج الكواكبى بين الفكر والممارسة، فأنتج العديد من الكتب فى مطلعها «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وكون جمعية «أم القرى» ووضع خطة ثورية لقلب نظام الحكم العثمانى المطلق فى بلاد العرب وإقامة حكم قومى على أساس الشورى، يقف على أكتاف «جمعية حكماء» تحرض الجماهير على المقاومة.
وسار عبدالحميد بن باديس فى الجزائر على الدرب نفسه، حيث لعب دورا سياسيا مهما فى سبيل استقلال وطنه، جنبا إلى جنب مع دوره التربوى، وسلك الطريقين بغية الحفاظ على هوية بلاده، التى كانت فرنسا تسعى إلى مسخها وإزالة أصولها، ودمجها فى الجمهورية الفرنسية. فابن باديس ركز طيلة حياته على محاربة البدع، وتجديد الدين بربط الفروع بالأصول، والتربية والتعليم، وإعداد «القادة القرآنيين»، وكان يتفق مع محمد عبده فى ضرورة أن ينطلق الإصلاح من التغيير النفسى، إذ يقول: «إن الذى توجه إليه الاهتمام الأعظم فى تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر». وكان فى الوقت نفسه يتفق مع الأفغانى فى ثوريته، بعد أن ضاق ذرعا بالاستعمار، وانتابه خوف شديد على هوية الجزائر، وهاهو يقسم: «والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقوننى على إعلان الثورة لأعلنتها».
لكن هذه المسيرة توقفت وتحتاج الآن إلى إحيائها، بل تجاوزها إلى غربلة التراث بشكل علمى، وربط الفقه بالواقع، وإعمال العقل، والانحياز إلى مصلحة الناس، وفصل الدعوى عن السياسى، وإنتاج خطاب دينى ينشغل بالامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى والنفع العام.
د. عمار على حسن
الإصلاح الدينى المنتظر وسبل ترميم الشروخ الاجتماعية وتطهير الذمم
الخميس، 26 يونيو 2014 12:45 ص
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة