منذ ثلاثة أيام قتل عقيد الشرطة إلهامى عبدالمنعم، رئيس فرع البحث الجنائى فى سوهاج، فى الصعيد، على يد جماعة من المجرمين. فى اليوم نفسه كانت الأحكام على الصحفيين والإعلاميين من قناة الجزيرة فى القضية الشهيرة باسم خلية ماريوت. امتلأت الدنيا بالحديث عن الأحكام القاسية والكبيرة، ونالت الأحكام من الصفات السيئة الكثير، وملأت مواقف الدول الأوروبية الرافضة للحكم القاسى كل المواقع الإلكترونية للصحف وغيرها، وكذلك المظاهرات هناك. فى اليوم التالى انتشر خبر منع مسلسل «أهل إسكندرية» بعد تصريحات السيد حسن حامد، رئيس مدينة الإنتاج الإعلامى، بأن القناتين اللتين كانتا ستعرضان المسلسل، قناة «المحور» وقناة «الحياة»، امتنعتا عن عرضه لضغوط أمنية، كما قال له من اتصل به من القناتين. أصدرت وزارة الداخلية بيانًا تقول إنها لا علاقة لها بالأمر، وأعلنت قناة «المحور» أنها ستعرض المسلسل، وأعلنت قناة «الحياة» أنها لم تستقر بعد على العرض، وأعلن مستشارها القانونى السيد خالد أبوبكر أنه لا أحد يستطيع أن يفرض على أى قناة أن تفعل ذلك، وأن هذا الزمن قد ولى، ولا عودة للوراء، وأن المسلسل سيعرض، ثم تطور الأمر إلى انسحاب الشريك الكويتى فى الإنتاج، لأنه لا يريد أن يغضب الدولة المصرية. وصار مؤكدًا أو شبه مؤكد عدم عرض المسلسل، طبعًا المسلسل من تأليف بلال فضل، وتمثيل عمرو واكد، وبسمة، وهم ليسوا محل ترحاب من النظام الحالى. ولا أعرف لماذا تكون الفنانة بسمة غير مرحب بها من النظام الحالى، فهى لا تتحدث ولا تكتب، بالطبع لأنها زوجة الدكتور عمرو حمزاوى الذى يكتب، لاحظ ذلك.. يكتب، وأكثر هدوءًا وعقلانية فى كتابته من الكثيرين. فى الوقت نفسه انشغلت المواقع الإلكترونية بمتظاهرى الاتحادية المحتجين على قانون التظاهر من الشباب الذين قبض عليهم، وما يحدث لهم من حبس أو إفراجات أو نقل إلى السجن، أو ما حدث لهم من إصابات وضرب، وفجأة أضيف إلى هذا كله توقف الكاتب علاء الأسوانى عن الكتابة فى «المصرى اليوم»، ورغم أنه لم يشر صراحة إلى أنه تم إيقافه أو التدخل فيما يكتب، لكن الطريقة التى كتب بها تشى بذلك، إذ قال إن هذا زمن الرأى الواحد والمدح للحاكم، ولا رأى آخر، وانقسم الشباب بين مؤيد ومعارض له حتى خرج أحد أصحاب الجريدة أو أكبر أصحابها ليقول إنهم يعتذرون لعلاء الأسوانى، لأنهم أخلوا بالتعاقد معه، والذى يحدد الإشارة إلى المقال فى صفحة الجريدة الأولى، وهو ما لم يحدث فجأة، وصار حسب قول الجريدة فى الصفحة الثالثة. لم يذكر الأسوانى السبب المباشر لتوقفه، لكن من المؤكد أنه اعتبره طريقة لاستبعاده أو لتوصيل رسالة إليه أنه لم يعد مهمًا لهم، أقول هذا على أحسن تأويل.. فى وسط هذا كله سؤالى الذى كدت أنساه كما نسينا صاحبه، وهو: أين العقيد المسكين الذى قتل على يد المجرمين؟.. طبعًا سيتم تكريم العقيد الشهيد من الشرطة، لكن سؤالى هو: أين الرجل وسط كل هذه الأحداث التى إذا نظرت إليها تجدها كان يمكن ألا تحدث لولا قانون التظاهر، فلو أن قانون التظاهر يبيح التظاهر فعلاً، ولا يمنعه، ما كان هناك الآلاف من ضحايا الأحكام الموجودين بالسجون الآن، ولو أن حرية الصحافة والتعبير لا تُمس لانتهى القبض على الصحفيين، أو الاعتداء عليهم، ولو أن العداء لمؤلف أو ممثل بسبب رأيه لا يتعدى تفنيد الرأى إلى قطع العيش، ما جرى هذا اللغط الذى ملأ الفضاء وشغل الناس. وأعود لأسأل: من الضحية فى هذا كله؟ ضحايا قانون التظاهر لديهم يقين، وهم على حق بأنهم أبرياء، وسيعوضهم الله خيرًا، والكتّاب الذين يُمنعون يستطيعون الكتابة فى أماكن أخرى، ويزداد الإقبال عليهم، وكذلك الفنانون.. الضحية الوحيدة التى لا أمل لها فى الحياة هى هذا العقيد الذى مات واستشهد من أجل الواجب، وكل ما حوله أدخله دائرة النسيان فى نفس اليوم، إن لم يكن نفس اللحظة، وكأنه قتل مرتين، مرة بيد المجرمين، ومرة بانشغال المجتمع عن مقتله. والأمر لا يتوقف عند هذا الرجل، بل قبله عشرات قتلوا بيد الإرهاب من الجيش والشرطة، ورغم أن هناك مدارس حملت أسماء بعضهم أو شوارع، وهناك تكريمات من الشرطة أو الجيش لأهلهم، فإن الذاكرة الشعبية مشغولة للنهاية بما يحدث فى مصر من تبعات لقرارات الدولة وقوانينها.. للأسف ما يحدث من عدوان على الشرطة ورجالها يضيع بسبب انشغالها بما هو ليس من عملها.. انشغالها بأن تكون المندوب عن النظام الحاكم يجعل من يموت منها دفاعًا عن الناس يموت بالمجان.. كانت كذلك من قبل، أيام مبارك، لكن لم تكن هناك اغتيالات، وحتى حين كانت هناك اغتيالات فى بداية عصره، كنا نعرف أنه الإرهاب، والشعب يشجبها، لكن الآن هناك قطاع كبير من الشباب يتعرض للظلم والقهر والضرب بسبب التظاهر السلمى، وعلى الأرض تغيرات مفاجئة تبشر بالتضييق على الحريات الفكرية، سواء كانت من أعلى سرًا، أو من تطوع بعض من يملكون أو يديرون الفضائيات والصحف، وهكذا تمتلئ الحياة بأشياء كثيرة أضاعت وتضيع الالتفاف أو حتى الرثاء لضحايا الإرهاب. وينشغل الموافقون على هذا كله بالرد على المحتجين بالبلاد الخارجية بأن هذا شأن مصرى، وأن فى بلادكم مثله أو أسوأ منه، وفى هذا لايختلفون عن النظام الذى يشير دائمًا إلى أن هناك فى العالم مثل ما يفعله النظام فى مصر. قانون التظاهر كانت أكبر حجة معه أنه موجود فى الدول الحرة كلها، وطبعًا لا يوجد أبدًا على نحو يمنع التظاهر مثل القانون المصرى. وأيام فتحى سرور كان فى نقاش كل قانون سيئ يضرب المثل بقوانين فى بلاد العجم، والدنيا لم تتغير، لكن وزارة الخارجية هى وحدها التى يمكن أن تقول الحقيقة فى موقف العالم من مصر، والذى حتى إذا تراجع ما يلبث أن يعود مع أحداث أخرى، وأحكام أخرى بسبب هذا القانون. وأعود إلى السؤال، فمعركتنا مع الإرهاب طويلة، فلماذا نطيل المعركة مع الناس العاديين وبالذات الشباب الذين هم وقود هذا القانون؟، وهل معركتنا مع الإرهاب والجريمة هى المعركة الحقيقية أم مع المختلفين فى الرأى؟.. أعرف أن رئيس الجمهورية أمر بإعادة النظر فى القانون، فهل يمكن أن يكون ذلك على وجه السرعة، وأن يتقدم ذلك على غيره من القوانين، أو يتم إيقاف العمل به مؤقتًا حتى يصاغ قانون جديد لا يمنع التظاهر؟.. فى النهاية لا تقدم اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا فى ظل القمع.. الحرية هى المرآة التى يرى فيها أى نظام نفسه كل صباح، بدونها يشيخ مبكرًا، ولا ينجح لا فى الاقتصاد ولا غيره.. نظام لا يرى أخطاءه يستمر فى الخطأ.