يصعب جدا على من تعودوا العيش فى ظلال المادية واستمروا الحياة بين جدران النفعية الضيقة، إدراك وجود أناس لا يفعلون الأشياء لأجل مصلحة عاجلة أو أجر دنيوى ومتاع زائل، يصعب عليهم جدا أن يقبلوا الاعتراف بأن هناك من يقوم بعمل أو يتكلم بكلمة أو يتخذ موقفا لا لشىء إلا ابتغاء مرضاة الله وطلبا لمثوبته ورجاء فى جزائه وأجره وطمعا فى جنته، يصعب عليهم جدا فهم هذه النوايا والأهداف لذلك تجدهم دائما يعجبون ويسيئون الظن تجاه أى عمل صالح ودوما بتشكك يسألون: لماذا وليه وعشان إيه ؟ ومن هنا تأتى تلك الفوبيا، فوبيا التجارة بالدين،
وابتداءً أقول ولا أستحيى من ذلك القول: نعم هناك تجارة بالدين وهذا ليس أمرا حديثا وليس قاصرا على دين بعينه، ولقد ذكره ربنا فى كتابه ولا ينكر وجود تلك المتاجرة إلا جاهل أو جاحد يقول الله جل وعلا: "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، حالة تجارة واضحة واستفادة من الدين وعهده وإيمانه مقابل ثمن قليل رصدها كتاب الله وجعل عليها وعيدا فى الآخرة، أيضا قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"، وهذه حالة أخرى اختار أصحابها أن يتاجروا بما معهم من كتاب مقابل الثمن القليل كالعادة واقترن بتلك المتاجرة إلقاء لما معهم من العلم خلف الظهور وكتمان العلم وترك البيان فبئس ما يشترون، إذن فتلك التجارة الخاسرة أخرويا، وإن ربحت ثمنا قليلا دنيويا موجودة ومرصودة ولا يمكن إنكارها، ولا شك أنه دائما يوجد وسيوجد من يتخذ الدين مهنة والقربات مصدرا للمنفعة والاستغلال، وفى الحديث الصحيح: "فمَنْ عَمِلَ مِنهمْ عَمَلَ الآخرةِ للدُّنْيا لَمْ يَكُنْ له فى الآخرةِ من نَصيبٍ" لكن هل هذا هو الأصل؟ هل مطلوب منا أن نسيئ الظن فى كل من عمل عملا ظاهره الصلاح ونقول إنه إنما يتاجر به وله أغراض خبيثة من ورائه أو يبتغى به أهدافا سياسية ومآرب حزبية ؟!
الحقيقة أن هذا من أبشع الظلم وأشنعه ويعد من الرجم بالغيب أن أطلق هكذا بغير دليل ثابت وقرائن واضحة، يقول الله: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ أن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب"، هذا هو العدل الربانى والإنصاف القرآنى فكما أن هناك من هم بالدين يتاجرون فهناك من لا يقبل ذلك ولا يشترى بآيات الله ثمنا قليلا، وهؤلاء أيضا يتاجرون لكن تجارتهم مختلفة تماما إنها تجارة مع الله، "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور"، هؤلاء موجودون وكذلك الآخرون المنتفعون المستغلون، لماذا إذن هذا للإصرار على اتهام النيات والرمى بالمتاجرة والتحذير من أهداف خفية وأغراض استغلالية لحملة دعوية بسيطة أكاد أوقن أنها ما انتشرت هكذا إلا ببركة محبة المصريين للنبى صلى الله عليه وسلم، ولأنها بسيطة تحمل ثوابا يسيرا بغير شعار حزبى أو علامة سياسية، فقط هو التذكير بتلك القربى العظيمة التى أمر بها الله "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا".. فقط دعوة للصلاة على الحبيب رأينا مثلها عشرات من الحملات الدعوية طوال العقود الفائتة، ولم تحدث ضدها تلك الضجة والمحاربة لا لشىء فى تقديرى إلا لعدم وجود تلك الفوبيا حينذاك.. فوبيا التجارة بالدين.