«يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» هذا الوصف العجيب أطلقه النبى صلى الله عليه وسلم على طائفة من المتناقضين المارقين من الدين. لم يكن موطن الخلل لديهم فى كثرة التلاوة أو كمِّ التعبد بل على العكس كانوا كثيرى العبادة يحقر الناس صلاتهم إذا ما قورنت بصلاة هؤلاء المارقين وكذلك صيامهم وتلاوتهم، ومع ذلك مرقوا من الدين.
ورغم أن القرآن هو فى الأصل كتاب تغييرى أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ولو أنزل على جبل لرأيته خاشعا ولشهدته متصدعا متأثرا. ورغم أن الله قال عن كتابه: «ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى» وتقدير الكلام لكان هذا القرآن هو الذى يُحدث تلك التغيرات الكونية العظيمة من تحريك جبال وتقطيع أرض وتكليم موتى، إلا أن كل ما سبق لم يفرق مع هؤلاء القراء الذين لم تنفعهم قراءتهم للقرآن ولم تغيرهم كثرة تلاوته والسر هو تلك الصفة التى لازمت قراءتهم. نفس الصفة التى تميز قراءة كثير منا اليوم «لا يجاوز حناجرهم». عند الحنجرة منتهى الرحلة، وهناك أقصى مسافة تبلغها المعانى والتوجيهات القرآنية فلا تصل إلى القلب ولا تعبر أسوار العقل ولا تسمو بها الروح أو يصح بها الفهم، وبالتالى لا تفيد ولا تؤثر والأهم لا تغير من واقع المرء شيئا.. تلك هى الحقيقة المؤسفة التى يرفض كثير منا الاعتراف بها وإلا فبما نفسر هذه الظواهر المحزنة التى تحيط بنا خصوصا فى رمضان وما بعده. كمٌّ لا بأس به من التلاوة فى رمضان بالذات وحرص فيه من الكثيرين على الختمات المتعددة وعلى سماع القرآن وترتيله آناء الليل وأطراف النهار والصلاة به فى التراويح والتهجد ثم المحصلة الكيفية لا تساوى أبدا الكم المقروء والحرص المشهود والسر هو الموضع الذى ينتهى إليه القرآن. أهى الآذان والحناجر أم هى العقول والقلوب ومن ثم الجوارح والمعاملات؟!
أعتقد أن الإجابة واضحة من حولنا، القرآن كتاب تغييرى عملى كما بينا فى السطور الماضية، لذلك تجد الربط الواضح بين مشهد الجود المضاعف (العملى) لدى النبى صلى الله عليه وسلم وبين مدارسته للقرآن مع جبريل عليه السلام فى رمضان فتجده فى رمضان أجود ما يكون.. أجود من الريح المرسلة حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن كما بلفظ الحديث الصحيح. إذن فهدى النبى فى رمضان مع القرآن لم يكن مطلق القراءة وإكثار الختمات وحسب، ولكنها المدارسة.. تلك السنة المهجورة فى رمضان للأسف. تأمل الربط، علاقة وثيقة بين القرآن وتدبره ومدارسته وبين العمل والتطبيق والخلق، لكن للأسف كثير منا شغل بالهدية عن الوصية، والهدية هى الأجر والمثوبة فصار طلبه لذلك هو الأصل ونسى أو تناسى أن تلاوة القرآن ليست فقط وسيلة لتحصيل الحسنات بل هو منهج تغييرى يؤثر على واقعك وحياتك بعد أن تفهمه وتعى معانيه. بداية هذا التغيير تكون بتصحيح النظرة للقرآن ومن ثم تصحيح العلاقة وتحويلها إلى مصاحبة حقيقية ومعرفة تتعمق تدريجيا. يعين على ذلك فى رمضان أن تترسخ قيمة المدارسة التى كانت السمة المميزة لعلاقة النبى بالقرآن فى رمضان. إنها دعوة لتغيير النظرة النمطية للقرآن وعدم الانشغال بالهدية عن الوصية والانتباه إلى طبيعة العلاقة التى تجمع بين المسلم وبين آيات ربه. تلك العلاقة التى يصعد المسلم درجاتها عبر سلم المدارسة والتدبر والتعرف ليستحق فى النهاية ذلك اللقب الشريف العظيم، لقب صاحب القرآن اجعل لنفسك هذا العام وردا للمدارسة والفهم والتدبر ولو كان يسيرا ولا تهجر هذه السنة الرمضانية، سنة المدارسة والتطبيق، ولا تكن من أولئك الذين يقرأون القرآن لكن بلا فائدة تذكر، لأنه ببساطة لم يجاوز حناجرهم.