فى مفترق طرق حقيقى للمجتمع المصرى.. حرب يشنها الإرهابيون، وحرب تشنها الدولة على المتظاهرين السلميين، وقرارات اقتصادية متسرعة تحاول الدولة أن توقف شيئًا مما سيلحق بسببها للناس العاديين من أضرار منظورة أو مرتقبة، ودعوة للتبرع لصندوق مصر الذى سيكون تحت الإشراف الخاص لرئيس الجمهورية، والذى- حتى الآن- يتقاعس رجال الأعمال عن المشاركة الواضحة فيه، حتى أن الرئيس نفسه دعاهم لذلك بوضوح، وسألهم: ألن تتقدموا للتبرع لمصر؟ هل ستتأخرون عن مصر؟، ولا يبدو فى الأفق أن الدولة ستتراجع عن قانون التظاهر بقانون آخر حقيقى لا يمنع التظاهر، والأحكام تتوالى والسجون مفتوحة، والناس بين مؤيد ومعارض، وساكت على مضض أو قهر.
فى وسط هذا الجو المشحون بالتوتر يخرج علينا المجلس القومى للمرأة باستنكار لمسلسلات رمضان، وصورة المرأة فى مسلسلات رمضان.. لمَ لا وقد فعلها من قبل، واستجاب له رئيس الوزراء ومنع فيلمًا كان سيمضى دون أى أثر فى تاريخ السينما غير أنه فيلم من أفلام المقاولات، أعنى «حلاوة روح». هكذا استحلى المجلس القومى للمرأة المسألة، فبدلًا من البحث عن طريقة لإنقاذ المرأة مما هى فيه من فقر وإعالة، راح يبحث عن صورة حلوة لها فى المسلسلات، وإلا سيغلقها كما أغلق فيلمًا من قبل.. هؤلاء الذين يحبون أن يعيشوا فى الكذب المريح، يعنى لو قدمت الدراما صورة المرأة باعتبارها أحسن الناس حظًا فى الدنيا، هل سيصدق أحد؟.. أول من سيسخر من ذلك هم النساء اللاتى منذ الصباح حتى النوم فى مأساة فى الشارع والمواصلات والبيت والعمل.
لم يقف الأمر عند المجلس القومى للمرأة، بل امتد إلى نقابة الأطباء، فظهر احتجاج من أطباء النساء على مسلسل «دكتور نسا» لأنه قدم طبيب أمراض النساء حشاشًا و«بتاع نسوان»، واستمعت إلى اللقاء الذى أداره وائل الإبراشى حول الموضوع، وكان خلاصة حديث الأطباء أنه كما منع رئيس الوزراء مسلسل «أهل إسكندرية» حفاظًا على سمعة ضباط البوليس، فمن حقهم كأطباء أن يمنعوا ما يسىء إليهم.. الله أكبر، وهكذا سيفعل المدرسون والمحامون والقضاة والسائقون والسمكرية والزبالون وكل المهن أيضًا، ولن نجد فى مصر أحدًا يمكن أن يكون بطلًا لفيلم أو مسلسل.. طبعا كلام الأطباء يدافعون به عن أنفسهم، لكنه أيضًا لا يخلو من الحقيقة، فمادام فعل رئيس الوزراء ذلك من أجل البوليس، فهم ليسوا أقل من البوليس.. لن أقول إن رئيس الوزراء فعل ذلك كرهًا فى المؤلف والممثلين، وليس حبًا فى البوليس، لكن سأقول إنه بما فعل فتح بابًا واسعًا يتيح المنع لأى شخص، والأهم أننا هنا صرنا بصدد هجوم عنيف على الفن والفنانين.. صحيح أن المسلسلات والأفلام التى تثير هذه الضجة تافهة تقريبًا، ليس لذلك، لكن لأنها دراميًا تعانى من أخطاء كثيرة ومبالغات سخيفة، تجعل من السهل فهمها فهمًا سطحيًا كما هى سطحية، فهمًا يحولها إلى دعوة للرذيلة، لكن هذا بالذات أكبر سبب لعدم الوقوف أمامها، وتركها للتاريخ تنتهى خارج ذاكرته الفنية، لكن لا أحد يريد استقبال العمل الفنى بعيدًا عن قراءة المقالات أو الاستماع إلى الخطب.. لا فائدة فى أن أقول إن للعمل الفنى قواعده الفنية التى يقاس عليها، لا على أى شىء آخر، وأسوأ الأفلام والأعمال الإبداعية هى التى تحمل رسالة ما على عكس ما يظن كل الناس، وأعظم الأعمال هى التى تثير الشجن أو حتى تبعث على الضحك، ولم يحدث أن فيلمًا غيّر التاريخ ولا رواية ولا قصيدة شعر، لكنها كلها تغير من متلقيها قارئًا أو مشاهدًا وتجعله أكثر راحة وأكثر اكتمالًا، هذا فى حالة كونها جميلة، أما فى حالة كونها تافهة فلن تفعل أى شىء غير بعض الإثارة التى تختفى مع الحياة.. الذى أدى إلى ثورة يناير لم يكن الأفلام، ولا الروايات التى عن الفساد، لكنه الفساد نفسه الذى رآه الناس حولهم كل يوم.. والثورة على الإخوان لم يسبقها أى فيلم سيئ عن الإخوان، بل حتى أيام مبارك حين كان الإخوان سندًا للحكم كان عملهم فى مجلس الشعب هو الهجوم على الأفلام والروايات والشعر، وإثارة ضجة لا معنى لها.. وانظر كيف انتهوا فى النهاية، وكيف انتشرت الروايات والكتب والأفلام؟، لكنّ فى الأمر شيئًا لابد أن أشير إليه بوضوح أكثر، وهو أن هناك توجهًا من الدولة على الإمساك بكل شىء فى يدها، بدءًا من الاقتصاد ومشكلاته وطريقة حله، إلى السيطرة على المظاهرات، إلى إنكار وجود الرأى الآخر وتشويه أصحابه.. باختصار اعتبار نفسها فوق النقد، واعتبار ما تفعله مقدسًا لا يأتيه الباطل من أى جهة، ومن ثم ينسحب هذا على غيرها من الأجهزة، ويمتد إلى الجماعات ليكون طريقة وحيدة فى الحياة، وهكذا فسوف تنفجر مصر فى الأيام المقبلة بمن يتصور نفسه يمتلك الحقيقة، ولا أحد غيره يمتلكها، وستقصف أقلام من متبرعين بالشكوى إلى النيابة والقضاء، وكل ذلك سيكون تحت اسم الفضيلة، وبناء مصر التى علينا جميعًا أن نعبّر عن حبنا لها بالرضا والصمت والخنوع.. أجل لن يتوقف الأمر عند أفلام لا معنى لها، أو مسلسلات لا قيمة لها، وسيمتد ليشمل كل شىء، وكما ترى الدولة فى نفسها أحسن مؤلف، سيرى الآخرون ذلك.. أيها الناس انتبهوا إلى أعمالكم الحقيقية، ولن توقفوا عجلة الزمن، وعليكم أن تعرفوا أن كل محاولة لوضع الوطن فى طريق واحد انتهت بالفشل، وهكذا تنتهى فى كل الأوطان الفاشية أو الديكتاتورية التى عوّض بها الناس خضوعهم للحاكم بإخضاع غيرهم قسرًا.. أيها الناس ارحموا هذا الوطن من هذه القضايا التافهة، وامنعوا الإجرام على الأرض، وابحثوا عن حياة كريمة للمواطن، واعلموا دائمًا أن الفنان لا ترضيه حتى الجنة، فالفن ليس عن الاستقامة والمستقيمين، لكن عن الخارجين على الأعراف، وشخصيات الفن لا تمثل إلا نفسها، وليست نموذجًا لأحد إلا عند النقاد الساذجين، فالضابط الفاسد هو الذى أمامك فى الفيلم، وليس كل الضباط، وهكذا مع الطبيب والقاضى والمدرس، وكل من يقدمه العمل الفنى مكتوبًا أو مرئيًا.