غريب ما يحدث حولى من نقاش على مواقع الفضاء الافتراضى.. كثيرون سعداء بما يحدث فى غزة من قصف إسرائيلى، وشهداء بالمئات، ومصابين بالآلاف من أهل غزة. وكثيرون أيضًا محتجون غاضبون من عدوان إسرائيل. لقد اختلفت هذه المرة عن غيرها، لقد جاءت فى وقت العلاقات فيه بين مصر وحركة حماس الحاكمة فى غزة فى أسوأ درجاتها.. الأسباب معروفة، سنة حكم الإخوان، والأنفاق، وما جاء منها أو ما هرب، وكلام كثير فيه من الحقيقة وفيه من الشائعات أيضًا. وهكذا بدا للسعداء بضرب غزة أن الضرب موجه إلى «حماس» وليس إلى أهل غزة، وهكذا وحدوا بين أهل غزة و«حماس»، وليس كل أهل غزة «حماس»، بل الكثيرون يعانون من حكمها الذى يرتدى وشاح الدين ليحكم بلا كلام ولا نقاش ولا ديمقراطية. شعب غزة يعانى من حكم «حماس»، ويعانى من هجوم إسرائيل وغاراتها. ومن أجمل التعليقات على «تويتر» تعليق لشابة تقول إن من يوحدون بين حماس وأهل غزة لا يختلفون عمن فى الغرب ممن يوحدون بين المسلمين وبن لادن. أجل فالظاهر أمامنا، ولا يمكن تكذيبه أن الغارات يومية وطول النهار والليل، وأن ضحايا أهل غزة بالآلاف.. البداية طبعًا كانت خطف فصيل مجهول لثلاثة صبية إسرائيليين وقتلهم، ثم دفن المستوطنين لصبى فلسطينى حيًا كنوع من الانتقام. لم تحاول «حماس» الوصول لقتلة الإسرائيليين، ولم تقدم إسرائيل من فعلوا ذلك من المستوطنين للمحاكمة، وإن أعلنت ذلك. تدهورت الأمور بسرعة كأن أحدًا كان ينتظرها، كل ذلك يمكن فهمه، لكن بعد أن صارت الغارات بهذه الكثافة صارت جرائم حرب وجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية. فهل هذا هو الوقت المناسب للتشفى فى «حماس»؟ أعرف أنه بعد ذلك ستعود الأمور إلى حالها الأول، وسيتم رأب الصدع بالأموال التى ستتدفق على «حماس»، وسيعتبر الموتى شهداء، لكن هل هذا سيكون فى مصلحة إسرائيل. لو كان ذلك كذلك لكان فى مصلحتها كل ما فعلته من جرائم سابقة. صحيح كسبت أرضًا بعد كل اعتداء، وتوسعت أكثر من كل وقت، ولم تعد للفلسطينيين إلا مساحة لا تذكر، قياسًا على أرض فلسطين، لكن هل انتهى العداء لإسرائيل من الفلسطينيين فى العالم أم يزداد كل يوم؟.. تخسر إسرائيل رغم أنها تكسب أرضًا، فالعداء لها يملأ فضاء العالم الذى يمتلئ باللاجئين أو الفارين من فلسطين، طيب ماذا سنفعل؟ هذا هو السؤال.. السؤال الذى راح بعيدًا الآن وهو الاتفاق بين حماس والسلطة الفلسطينية، هذا الاتفاق الذى حين حدث لم يطل وبدأت الأحداث، يمكن أن يقول أحد إن «حماس» هى المستفيدة. لقد عادت إلى الصورة ككيان مستقل، لكن أيضا إسرائيل مستفيدة، فهى تريد «حماس» كيانا مستقلا عن السلطة الفلسطينية. «حماس» يعنى دافع لإسرائيل لتتحول لدولة دينية خالية من المسلمين والمسيحيين، هذا هدف نتنياهو الذى أعلنه دائمًا ويسعى إلى تنفيذه، أليست جواره دولة دينية؟ كيف نقول ذلك دون أن نساوى بين حماس وأهل غزة؟ هذا هو السؤال.. سيستغرق الأمر وقتًا طويلاً، و«حماس» لن تدرك ذلك أبدًا، لكن ما يحدث حولنا من حروب طائفية فى البلاد العربية، مثل سوريا والعراق، هو فى النهاية فى صالح إسرائيل، لأنه أضعف هذه البلاد، وأنهى على ما بقى فيها من قوة من ناحية، وأعطى ويعطى مبررًا للدولة اليهودية أن تعلن يهوديتها أكثر مما تعطيه «حماس»، وسيتراجع أى تيار مدنى فى إسرائيل نفسها عن مقاومة هذه النزعة لتهويد الدولة. الأمر مربك حقا، لكن ليس أمامنا الآن إلا أن نفصل بين «حماس» وأهل غزة لأنهم يدفعون ثمنا لم يتوقعوه كل مرة. يمكن جدا أن يكون لحماس هدف من مناوشة إسرائيل بين وقت وآخر، لكن لإسرائيل الهدف الأكبر. باختصار علينا أن نكون ضد العدوان على الإنسانية، وضد التمييز العنصرى الذى يحدث الآن من إسرائيل للشعب الفلسطينى، ونترك الهجوم على حماس، ربما نساعد أهل غزة فيما بعد أن يقولوا كلمتهم فى حماس.
يتبقى شىء مهم، هل يمكن فعلا لمصر أن تتخلى عن قضية فلسطين عموما وغزة بوحه خاص، لايمكن. فى علم السياسة التى نسيت كثيرًا منه بسبب الأدب والرواية ما يسمى بالمجال الحيوى vital space، للإنسان مجال حيوى.. أنت تضج من الزحام لأنه يدخل فى مجالك الحيوى، أى مجال حركتك، وللدول مجالها الحيوى أيضًا، هو عادة الدول المجاورة، ففيها تكون حركتها وعلاقاتها الأقوى، وحين احتل هتلر تشيكوسلوفاكيا ثم بولندا كان يرى المارد الألمانى أكبر من أرضه، ومن ثم فمجاله الحيوى هو الدول المجاورة.. صحيح أن الأمر انتهى بحرب عالمية وبهزيمة لألمانيا، لكن ظل المجال الحيوى هدف كل البلاد، والدول الاستعمارية مدت فيه قبل هتلر إلى القارات البعيدة ونهبتها.. مصر كان مجالها الحيوى أيام الفراعنة يمتد إلى الشام وأفريقيا، ووصل إلى العراق أيضًا، لم تكن هناك إسرائيل، ومصر فى العصر الحديث بعد محمد على حاولت العودة إلى مجالها الحيوى الجديد، نجحت فى أفريقيا، وامتدت امبراطوريتها إلى أعالى النيل، ولم تنجح فى الشرق رغم أن جيوشها كادت تصل إلى الأستانة، لكن يظل الشرق مجالًا حيويًا لا يمكن الاستغناء عنه وهو فلسطين.. إسرائيل كانت أول باب مغلق فى هذا المجال، لكن هل يعنى ذلك غلق باب غزة، لم تكن غزة مشكلة لمصر بعد حرب 1948 وظهور إسرائيل، لأن غزة كانت تحت السيادة المصرية، الآن عادت غزة لأهلها، وتحت سيادتهم، فهل نغلق الباب؟ لا أظن أن ذلك مفيد على أى مستوى لمصر، حتى بعد ما جرى من حماس فى سنة حكم الإخوان السوداء، ليس معنى ذلك احتلال غزة ولا عودتها للسيادة المصرية، لكن أن تكون العلاقات معها طبيعية بعيدًا عن أى شروط إسرائيلية، وبعيدًا حتى عن حكام غزة.. هناك مؤشرات موجودة لذلك، مثل مدها بالكهرباء، لكنها ليست كافية، كيف يكون لنا معها تجارة وصناعة وعلاقات ثقافية، لا يمكن أن يأتى الزمن الذى تنسد فيه الأبواب مع غزة، الأبواب مسدودة مع إسرائيل إلا قليلا، ولا يمكن توسيعها، فالاتهامات بالتطبيع على قدم وساق، وإسرائيل لن تسمح أن تكون مجالًا حيويًا لمصر، بل تريد أن تكون مصر والعالم العربى كله حولها مجالها الحيوى.. إذن من يتصورون أن العلاقات مع غزة ستصل إلى الطريق المسدود على خطأ، لا هو تاريخ ولا جغرافيا.