فى المقال السابق تكلمنا عن أول أنواع الجهاد فى الإسلام والذى فرض فى العهد المكى، وهو الجهاد بالدعوة والتعليم ونشر الحق والتمسك به ودحض الباطل وإصلاح النفس بالمجاهدة، وقلنا إن هذا النوع هو الأصل فى معنى الجهاد فى الإسلام، ومع هجرة الرسول إلى المدينة المنورة بقيت هذه الأصول الجهادية غير أن ظروفا جديدة نشأت مع استقراره فى المدينة، اقتضت قيام المسلمين بواجبات إضافية فى هذا المجال ويمكن تلخيص هذه الظروف فى أن الهجرة أدت إلى نشأة أول دولة بأغلبية إسلامية بكل مقوماتها الأساسية، من كتلة بشرية متماسكة، ودستور يؤسس لنظام قانونى يرعى علاقة ما بين أفرادها تمثل فى وثيقة المدينة، ومسؤول عن حماية هذا النظام وإدارة شؤونه وهو سيدنا محمد الرئيس الأول لهذه الدولة، وأرض يستقر عليها ذلك كله، هذه الظروف الجديدة والتى تمثل مكتسبات للأمة الإسلامية الناشئة بعد جهاد العهد المكى وما تحملوه فيه من مشقة أدت إلى ضرورة السعى إلى حماية هذه الدولة وشعبها من المخاطر التى تتعرض لها الدول من خلال تكوين جيش للدفاع عنها ليقوم أولاً: بتحصين الحدود وحراستها والمرابطة على الثغور، تحسبا لأى عدوان قد يتسرب متجها إلى هذه الدولة، ثانيا: التصدى بالقتال لكل من أقبل يتربص ويعتدى على أى من مقومات هذه الدولة أو على شعبها وهذا كله حق مشروع لأى دولة، ومن ثم شرع الجهاد بالمعنى القتالى أو الحرب.
ومن هنا يطرح سؤال من أخطر الأسئلة فى الإسلام وهو: هل الحرب فى الإسلام مقصورة على الدفاع أم يتجاوز ذلك لإكراه الناس بالقوة على الدخول فى الإسلام أو تطبيق أحكامه؟
نقول وبكل حسم إن الإسلام حصر السبب الموجب للجهاد القتالى فى الدفاع عن النفس ضد أى معتدٍ يبادر بالاعتداء على المسلمين وهو ما يسمى شرعا درء الحرابة وبذلك قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1 - أن الإكراه على الحق لا وجود له فى الرسالات السماوية كلها وقد وردت فى القرآن آيات تزيد على مائة وعشرين آية تفيد كلها أن نشر الإسلام أساسه الإقناع الهادئ، والتعليم المجرد، وترك الناس أحرارا بعد عرض الدعوة عليهم ليقبلوها أو يردوها مثل قوله تعالى فى سورة البقرة آية 256: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ» وهذا نفى فى معنى النهى أى لا تكرهوا أحداً على الدين، وقوله فى سورة يونس آية 99: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، بمعنى لا يحق لك أن تكره الناس على الإيمان، وقوله سبحانه فى سورة هود آية 28 على لسان سيدنا نوح عليه السلام: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّى وَآتَانِى رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»، وقوله تعالى من سورة النور آية 54: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ»، فحصر مهمة الرسول فى البلاغ، هذه الآيات وغيرها كثير يدل على أنه لا يوجد فى الإسلام ما يسمى بمحاربة الناس لإكراههم على التمسك بالدين أو الدخول فيه وترك معتقداتهم، وكما أن الله لا يعاقب من أكره على فعل الشر فإنه أيضا لا يقبل إيمان من أكره على الإيمان ولم يختاره عن اقتناع، وإن الإكراه سلاح كل فقير فى براهينه فاشل فى إقناعه، أعوزه المنطق فأسعفته العصا، والحمد لله الإسلام فيه من الإعجاز العقلى والقدرة الذاتية على الانتشار والانتصار بالحجة ما يغنيه تماما عن الإكراه.
2 - كذلك فإن آيات القرآن حسمت أن موجب قتال المسلمين لغيرهم إنما هو صد العدوان الصادر منهم ضد المسلمين والآيات فى ذلك كثيرة منها فى سورة البقرة آية 190 إلى 194: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»، فقوله تعالى: «الذين يقاتلونكم» تعليق للحكم بأنهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال، وقوله: «ولا تعتدوا» والعدوان مجاوزة الحد فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان، ويدل عليه أيضا قوله «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»، فدل على أنه لا تجوز الزيادة، ثم قال: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة» والفتنة تحويل المسلم عن دينه قسراً بالاعتداء عليه وتعذيبه.
- وقد ادعت طائفة ممن يعتقدون أن الجهاد القتالى يكون لإكراه الناس على الإيمان أن الآيات السابقة تم تعطيل العمل بها بالنسخ بآية سموها آية السيف التى يعتمد عليها الجماعات الإرهابية فى قتل الأبرياء بدعوى تطبيق الشريعة ونصر الدين وهى قول الله من سورة التوبة آية 5: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، وهذا الفهم هو محض افتراء وفيه تلبيس خطير فإن كلمة المشركين فى الآية وعلة الأمر بقتالهم تم شرحها فى الآيات التالية لها من آية 6 إلى 13: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ، اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ، أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، فماذا نفهم من هذه الآيات لدى التأمل فيها؟ نفهم منها بوضوح نقيض المعنى الذى فهمه جماعات التطرف فهى أكدت أن هناك فريقين من المشركين الفريق الأول لم يعتد على المسلمين والتزم بالمعاهدات وهذا أمرنا بحمايته ورعايته وإبلاغهم أماكن أمنهم عندما يرغبون فى الرحيل دون أن يؤمنوا والبر والقسط عند معاملتهم، والفريق الثانى من المشركين هم من ينقضون المواثيق ويصرون على الاعتداء على المسلمين فهؤلاء من أمرنا بقتالهم دفاعا عن أنفسنا وهذا مشروع ليس بالقرآن فقط وإنما بالمواثيق الدولية أيضا.
- ومما يذكره أيضا جماعات التطرف كدليل لارتكاب جرائمهم ضد البشرية الحديث الذى رواه الشيخان عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»، ونقول بداية إن هذا الحديث غريب الإسناد ولم يروه الإمام أحمد وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن من العلماء من استبعد صحته، وعلى الرغم من ذلك فإن الحديث إن صح فإنه لا يفيد ما اعتقدوه فلفظ: «أُقاتل» يختلف تماما عن لفظ: «أقتل»، فأُقاتل على وزن أُفاعل وهو فى اللغة العربية يدل على المشاركة فهو لا يصدق إلا تعبيرا عن مقاومة من طرفين بل هى لا تصدق إلا تعبيرا عن مقاومةٍ لبادئ سبق إلى قصد القتل فالمقاوم للبادئ هو الذى يسمى مقاتلاً، فالحديث معناه: أمرت أن أصدّ أى عدوان على دعوتى الناس إلى الإيمان بوحدانية الله، ولو لم يتحقق صدّ العدوان على هذه الدعوة إلا بقتال المعادين والمعتدين فذلك واجب أمرنى الله به ولا محيص عنه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة