بعد الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة عاد النقاش حول قضية الارتباط بين الديمقراطية والتنمية إلى الواجهة، فى ركاب أسئلة أو محاولات أو حيل عما إذا كان من الممكن أن نمضى قدما على مسار التنمية، متخففين من عبء الديمقراطية حتى يكون التقدم سريعا
إن هذا فعل غير محمود العواقب وسيؤدى حتما إلى الإخفاق فى إنجاز التنمية، لأنه لا يمكن لإنجاز مادى كبير أن يتم فى ظل القمع والكبت والتعتيم، ولو تم.. فقد لا يستمر أو لا يضمن قدرا عادلا من التوزيع أو يسقط فى هوة الفساد. ويزيد الطين بلة أن البعض يرى أن متطلبات الأمن تتناقض مع الديمقراطية، فيما يرى بعض أركان السلطة أن قضية الحريات العامة ليست سوى مطلب لنخبة قليلة، وليست مطلبا شعبيا، رغم كل ما جرى فى ثورتى يناير ويونيو.
ابتداء فإن الديمقراطية تعتبر فى قيمها الأصلية وإجراءاتها المحددة محكا لاختبار مدى تأثير الاقتصاد على السياسة، بل تتعدى ذلك فى بعض المجتمعات لتصل إلى النقطة التى يمكن عندها الإجابة على تساؤل مفاده: هل يصنع الاقتصاد السياسة؟، وهل هو الذى يسيّر دفتها ويحدد أهدافها؟. وهذا لا يعنى بالطبع التسليم بأن الاقتصاد فقط هو العنصر الفعال فى تركيبة الحياة السياسية الاجتماعية، لكن القول بأنه العنصر الأكثر أهمية لا يجافى الحقيقة، ولا يقفز على الواقع. وعلاقة الاقتصاد بالديمقراطية تبدأ من المنشأ وتنتهى عند صناعة واتخاذ القرارات داخل المجتمع مرورا بتوزيع الأدوار والأنصبة أو الأوزان السياسية بين القوى التى تزاحم أو تتنافس أو تتكتل فى سبيل أن تجد لها موقعا على خريطة صنع القرار.
فمن حيث المنشأ، فإن هناك من يعيد الديمقراطية إلى جذورها الرأسمالية، باعتبار أن الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية متلازمتان، إن لم يكن فى لحظة الانطلاق فعلى الأقل فى اللحظة الراهنة. وهذا الربط التقليدى بين الاثنين يستند إلى برهان تاريخى، ينزع إلى المركزية الأوروبية، وهو يقوم على أن الديمقراطية نشأت فى المجتمع الأوروبى إثر انهيار الإقطاع، وميلاد طبقة تجارية جديدة قادت العمل الاقتصادى
ونحتت لها أدوارا سياسية من أجل خدمة مصالحها. فاقتصاد السوق أوجد نمطا من العلاقات الاقتصادية الجديدة، أنتجت بدورها شكلا مختلفا من المجتمعات الإنسانية، يقوم على التنافس والتعدد وتوافق المصالح، الأمر الذى تمت ترجمته فى الديمقراطية كنظام سياسى.
وهناك مثال واحد، لكنه معبر إلى أقصى حد، عن هذا الارتباط التاريخى، فنشأة البرلمان فى إنجلترا تكاد تكون مرتبطة بتطبيق مبدأ لا ضريبة دون تمثيل نيابى، والتى تعنى أن الملك ليس من حقه أن يفرض ضرائب جديدة دون موافقة ممثلى دافعى الضرائب، وهم نواب البرلمان. ومعنى هذا أن دافع الضريبة، التى تعد تعبيرا عن أحد مظاهر تدخل الدولة فى إدارة الاقتصاد، يوظف الديمقراطية السياسية فى خدمة مصلحة اقتصادية
خاصة أن هذه الحقبة لم تكن تعرف كلمة مواطن Citizen التى تقوم عليها الديمقراطية الحديثة، بل كانت الكلمة التقليدية ذائعة الصيت فى هذا الوقت هى دافع الضرائب، الذى كان بمثابة المادة الخام للنظام الديمقراطى الوليد. لكن من المعروف أن وجود ارتباط بين الرأسمالية والديمقراطية لم تستقر أركانه أو يتمتع بشرعية اجتماعية ملموسة خلال الثورة الصناعية فى أوروبا.
ففى الولايات المتحدة وهولندا فقط كان هناك شكل من أشكال الديمقراطية التمثيلية ذات الوظائف القائمة على أساس قاعدة رأسمالية تجارية وليست صناعية.
ويصل الأمر بآلان تورين فى تناوله لارتباط الديمقراطية بالتحرر الاقتصادى إلى القول بأن «اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية وجهان لعملة واحدة لأنهما يشتركان فى الحد من السلطة المطلقة للدولة». وليس معنى ذلك أن هناك انسجاما كاملا بين الاثنين لكن يوجد على الأقل اتفاق واضح المعالم حول مصالح مشتركة، فالديمقراطية ورأسمالية
السوق «تشبهان شخصين مرتبطين فى زواج عاصف يمزقه التنازع ولكنه يستمر لأن كلا من الطرفين لا يرغب فى الانفصال عن الآخر»، حسب تعبير روبرت دال.
ويبنى دال حجته هذه على أن كلا من الديمقراطية واقتصاد السوق فى حاجة إلى بعضهما البعض، فالأسواق الحرة لا تريد أن تخضع لتنظيم صارم، وترفض أى إجراءات تحد من انتقال العمالة ورأس المال، ولا تقبل وصايا تمنع المستهلكين من أن يختاروا السلع التى يرغبون فى شرائها، أو عقبات تحول دون وصول الموارد الأساسية إلى المصانع، أو تدخل يحد من حرية التنافس بين المنتجين، والديمقراطية السياسية تلبى كل هذه الاحتياجات.
فى المقابل هناك من يرى أن اقتصاد السوق يساعد أكثر من غيره على تحقيق التنمية التى تتم ترجمتها فى تعزيز التعليم وزيادة درجة الاتصال الاجتماعى وسهولة تبادل المعلومات، الأمر الذى يزيد من درجة الوعى السياسى والاجتماعى لدى المواطنين بكل حقوقهم، ومن ثم يتمسكون بالديمقراطية، إذا كانت متواجدة، وينادون بها إذا كانت غائبة. وهذه المنفعة المتبادلة جعلت دال يقول إن الدول التى تديرها حكومات ديمقراطية تتجه إلى أن تكون أكثر رخاء من الدول التى تقودها حكومات مستبدة
وإن خبرة القرن التاسع عشر تبين أن الأولى كانت ثرية، والثانية كانت فقيرة فى الغالب الأعم. وقد تكرست هذه الصورة فى النصف الثانى من القرن العشرين، بشكل يشد الانتباه.
وقد دفع هذا الوضع كثيرا من الباحثين إلى التساؤل عما بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية من ارتباط. فتورين يرى أن «الديمقراطية والتنمية تسميتان لمسمى واحد»
ثم يعود ويوضح أن «التنمية ليست سبب الديمقراطية إنما هى نتيجة لها». لكن محاولة دمج المفهومين أو توحيدهما لم تلق قبولا عاما، بل انقسمت الآراء حولها، لدرجة اعتبار البعض أن هناك علاقة تنافر وتضارب بين الديمقراطية والتنمية، لأسباب اقتصادية وسياسية.
فاقتصاديا يرى هؤلاء أن النمو يحتاج إلى وفورات مالية تتاح للمستثمرين بما يمكنهم من إقامة مشروعات تنهض بعملية التنمية. لكن هذه الوفورات من الممكن أن تذهب إلى الاستهلاك وليس إلى الاستثمار. وهنا يصبح الطريق الوحيد أمام زيادة الفوائض المالية هو تقليل الإنفاق الاستهلاكى. وتعجز الأنظمة الديمقراطية عن فرض خطوة من هذا القبيل، لأن المستهلكين فى النهاية ناخبون وبإمكانهم أن يعاقبوا الساسة، الذين طالبوهم بضغط الإنفاق، فى أقرب فرصة تتاح لهم من خلال صناديق الانتخابات. ومن ثم يهتم القائمون على الأمر فى الأنظمة الديمقراطية بتلبية الاحتياجات قصيرة الأمد والملحة للمواطنين، وهذا توجه يضر بالاستثمار. وسياسيا فإن التنمية، من وجهة نظر هذا الفريق، فى حاجة ماسة إلى الاستقرار.
وفى ظل الدولة الديمقراطية يكون الباب مفتوحا أمام المؤسسات والجماعات الصغيرة لتسبب إزعاجا أو تنغيصا دائما للسلطة من خلال الضغوط التى تمارسها لتحقيق مصالحها، الأمر الذى يشيع جوا من البلبلة الاجتماعية، بما يضر بالتنمية الاقتصادية. أما فى ظل التسلطية فإن المجتمعات تستقر، ومن ثم تتفاعل عملية التنمية فى هدوء وثقة.
وعلى النقيض من ذلك هناك من يؤكد أن التسلطية تضر بعملية التنمية، لأنها تعطى الدولة صلاحيات كبيرة للتدخل فى شؤون الأفراد، بما يمنع من قيام اقتصاد حر، يبنى أساسا قويا لتنمية مستدامة. وإذا كان التذرع بأن الإنفاق على الاستهلاك يعوق التنمية، كما تقدم، فإن جزءا كبيرا من النفقات يذهب إلى قطاعات التعليم والصحة، وهى ضرورية لعملية التنمية، أو بمعنى أكثر تحديدا فإنها تشكل «استثمارا فى البشر»، أى توفر الدعائم الرئيسية للتنمية، بوصف الإنسان هو صانع التنمية وهدفها فى الوقت ذاته.
وفى إطار تبادل المنافع هناك من يؤكد أن التنمية الاقتصادية عامل مسهل لقيام نظم ديمقراطية، وذلك استنادا إلى عدة اعتبارات، منها أن التنمية الاقتصادية تقود إلى تغير فى القيم المجتمعية يخدم التوجهات الديمقراطية. فالتنمية توفر قدرة على قيام عملية تعليمية شاملة، وتعميق التعليم يجذر فى عقول المواطنين ونفوسهم قيم التسامح والاعتدال والعقلانية واحترام الآخر. كما أن التنمية الاقتصادية تؤدى إلى انتعاش الدخل القومى بما يحقق «الأمن الاقتصادى» للمواطنين، ويحد من «الصراع الطبقى» بينهم بما يمكنهم من تكريس وقت أطول لبلورة رؤية سياسية ذاتية. وتبرهن تجربة بعض دول العالم الثالث على صحة هذا الرأى إلى حد كبير، فانشغال الناس بتحصيل ما يقيم أودهم، فى الدول التى تحقق معدلات نمو منخفضة، يجعل العمل العام بالنسبة إليهم ترفا لا يقدرون عليه، واحتكار السلطة الحاكمة فى بعض الدول لمقدرات الثروة وتوزيعها حسب أهوائها يجعل مواطنيها يتحولون إلى مجرد رعايا لا مواطنين. وغياب المواطنة يعنى فى النهاية غياب الرافد الأساسى، الذى يغذى الديمقراطية ويحافظ عليها.
«وللحديث بقية فى الأسبوع المقبل بإذن الله تعالى»
د. عمار على حسن
خدعوك فقالوا: لنؤجل الديمقراطية الآن من أجل التنمية والأمن «1-2»
الأربعاء، 23 يوليو 2014 11:52 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة