خرجت من بيتى مسرعا.. لم تتبق إلا دقائق معدودات ويؤذن للمغرب.. سيكون إحراجا شديدا حين أصل متأخرا لتلك العزومة العائلية على الإفطار.. انطلقت بالسيارة مسرعا أمنى نفسى بسرعة الوصول، حيث خلو الشوارع فى رمضان ساعة الإفطار أمر طبيعى ومعتاد لكن ما إن انطلقت حتى اكتشفت أن هناك ما لم أضعه فى الحسبان أهل الخير مفَطِّرو الصائمين، كلما قطعت السيارة أمتارا يوقفها رجل وقور يحمل أكواب العصير المثلج ويصر أن تفطر عليه أو مجموعة من الأطفال والصبية يحملون علب التمر ويسارعون إلى نافذة السيارة لإعطائك تمرا تكسر به صيامك أو شابا يافعا يحمل أكياسا تحوى وجبات بسيطة فلعلك مسافرا أو ستطيل قيادة السيارة فتحتاج إلى وجبة تصبرك على الجوع حتى تصل هذا بخلاف عشرات من موائد الرحمن طوال الطريق بعضها ضخم فخم وبعضها بسيط صغير وما على المحسنين من سبيل، تنوعات كثيرة طوال الطريق مختلف أصناف البشر تجدهم طوال الرحلة منهم الكبير والصغير ومنهم الشاب (الاستايل) الذى يرتدى أحدث الموديلات، ويصفف شعره بعناية بالغة ومنهم من تبدو عليه آثار رقة الحال أو على الأقل توسطه، حرص وجو محبب من المسارعة إلى الخيرات والتنافس على المعروف، أشكال متعددة وانتماءات وتوجهات مختلفة يظهر بعضها من خلال السمت والشكل كلها ذابت فى تلك اللحظات فى إطار واحد اتفقوا عليه جميعا دون ترتيب، كلهم يريد الثواب وعمل الخير كما نحسبهم وجلهم يتفننون بشكل ملفت فى تجويد هذا الخير لتسهيل إفطارك
حقا إنه شىء لافت للنظر.
هذا الجو الرمضانى الجميل وتلك الظواهر المفرحة التى تنم عن بقاء الخير وتجذره فى القلوب وكل هؤلاء الذين وقفوا فى الشوارع والذين أنفقوا من أموالهم وجهدهم فى شراء الطعام والتمر أو إقامة موائد الرحمن تحركوا بدافع من ذلك الحديث أو غيره من آيات وأحاديث الإنفاق وبذل الخير..هؤلاء جميعا ما حركهم فى ظنى إلا حديث "من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجرِه غيرَ أنه لا ينقصَ من أجرِ الصائمِ شيئًا"إذًا فالأحاديث تحرك وتدفع للخير لهذه الدرجة، لكن السؤال هو: لماذا هذه الحماسة فى رمضان وحسب؟!لماذا لا نجد هذا الاندفاع إلى الخيرات بنفس الدرجة فى غيره؟!لماذا لا نجد هذا التفاعل الرائع مع أحاديث الفضائل وابتغاء الثواب من الله إلا فى رمضان. أسئلة أرقتنى وشرد فى أمرها ذهنى أثناء العزومة وبعدها، إنها مشاهد تتكرر سنويا هى ومشاهد أخرى كالتزاحم ليلة السابع والعشرين على المساجد المشهورة والتى تحظى بقراء ذوى أصوات عذبة مؤثرة وتشير إلى مسألة ينبغى التنبه له، مسألة فلكلورية العبادة والعطاء، أن تتحول العبادة إلى طقوس شعبية بدافع من الاعتياد والجو الاحتفالى الجمعى فهذا ما ينبغى الحذر منه ليس اتهاما للنية ولا تقليلا من شأن تلك القربات العظيمة التى أسأل الله أن يتقبل من أصحابها وليس أيضا دعوة للتوقف عنها ولكنها دعوة للمزيد دعوة لمراجعة الهدف ودعوة للنظر فى ماهية الطاعة وهل تحولت دون أن نشعر لمهرجانات سنوية .
إن رمضان فرصة سانحة لاستغلال هذا التشجيع على الخير وتثبيته، هذا الاندفاع الجميل إلى الإنفاق نحتاجه أكثر فى غير رمضان حين يقل العطاء ولا يجد الفقير نفس الحماسة فى إطعامه، هذا الامتلاء للمساجد الشهيرة ليلة السابع والعشرين تحتاجه مساجد تشكو طوال العام من الهجر والخواء ، هذا الامتثال لأحاديث النبى وتطبيقها بحماس ينبغى أن يوجه للمداومة ونفس النبى قال: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل فلتكن تلك الأيام الفاضلة بداية لتلك المداومة التى ساعد التشجيع والاجتماع على الطاعة وسهولتها فى وضعنا على أول طريقها ولنحرص ألا تتحول عباداتنا دون أن نشعر إلى مهرجانات احتفالية وعبادات فلكلورية موسمية .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة