عَنْ حَنِيفَةَ الرَّقَاشِىِّ رَضِىَ الله عَنْهُ، أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ». وقيل فى شرحه وتفسيره أنك لو أخذت ماله على سبيل الإحراج له، فلا يجوز لك، وإن كان فى الظاهر أنه راض.. وقيل فى الأثر (ما أُخذ بسيف الحياء فهو باطل).
أتحدث عن أولئك المسؤولين الحكوميين الذين دخلوا على الخط فى (صندوق تحيا مصر).. ويبدو أنهم يصرون على إفساد فكرته (جهلاً أو عمداً) كما أفسدوا علينا الكثير من المبادرات النبيلة من قبل.
مبدأ التبرع بالمال فى حد ذاته قيمةٌ عليا.. فإذا كان هذا التبرع للوطن فإنه يصل إلى مرتبة الجهاد (فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة).. وفكرة التبرع قديمةٌ فى وعى المصريين ووجدانهم.. وفى تاريخنا نماذج بلا حصرٍ لمبادرات المصريين فى هذا المجال.. والأساس فيها أنها تطوعيةٌ لا يطلب فاعلوها جزاءً ولا شكوراً.. ومن ثمّ فلا لوم ولا إحراج ولا ابتزاز لمن لم يتبرع.
فى هذا السياق أُقيمت جامعة القاهرة.. تبرعت الأميرة فاطمة بنت إسماعيل بالأرض، غيرَ باحثةٍ عن منصبٍ أو مقابلٍ، فنالت فضل التبرع عند الله وفى قلوب المصريين.. وتقاعس فى المقابل عشرات الأمراء ففاتهم هذا الفضل ولكن لم يبتزهم أحد.
كثيرون ممن اكتتبوا لإنشاء بنك مصر لم يكونوا ينتظرون عائداً لأسهمهم، ولكنهم كانوا مؤيدين لفكرة الاستقلال الاقتصادى ويثقون فى أمانة ووطنية الداعى لها.. طلعت حرب.. كثيرون غيرهم لم يكتتبوا.
ألزمت أم كلثوم نفسها بالتبرع بدخل حفلاتها لدعم المجهود الحربى، فحفرت مكانها فى القلوب وفى تاريخنا الوطنى.. ولم نسمع أن أحداً لام الفنانين الآخرين لأنهم لم يفعلوا.
عقب ثورة يناير مباشرةً، ارتفعت معنويات المصريين (لا سيما فى الخارج) إلى عنان السماء.. وكان الكل يريد أن يُسهم فى إعادة بناء الدولة ولا يعرف طريقاً لذلك.. فى هذا التوقيت المبكّر طَرَح الإعلامى محمود سعد فكرة إنشاء صندوقٍ خاص، له مجلس أُمناء من رموزٍ يثق المصريون فى وطنيتهم وأمانتهم وكفاءتهم، يتلقى التبرعات ويُحدد أوجه الصرف.. وسرعان ما تراجع الحماس مع انشغال مصر بالأحداث المريبة المؤلمة فيما سُمُى أحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود وغير ذلك.. وضاعت فرصةٌ ذهبية للاستفادة بالطاقة الإيجابية للمصريين.
مع انتخاب أول رئيسٍ بعد ثورة يناير، كان الجميع مُهيأً للعطاء (بمن فيهم من لم ينتخبوه) وعادت فكرة الصندوق من جديد.. ولكن الدكتور محمد مرسى طَرَحها بطريقةٍ تغلُبُ عليها السذاجة.. إذ دعا إلى إنشاء صندوقٍ خاص يتطهر الفاسدون مما اكتسبوه من مالٍ حرامٍ بإيداعه فيه.. وبالطبع لم يدخل مليمٌ واحدٌ إلى هذا الصندوق.. ليس لأن مصر بلا فاسدين.. ولكن لأن المال الحرام يُنتزع بالقانون لا بانتظار التوبة العلنية.. فماتت الفكرة فى مهدها.
بعد عزل الدكتور محمد مرسى، دعا الإعلامى خيرى رمضان (وانضم إليه آخرون) للتبرع لحسابٍ (306306) للصرف على أنشطةٍ بعينها، وقد بلغ رصيد التبرعات ما يقترب من سبعمائة مليون جنيه معظمها من القطاع الخاص، وهو مبلغٌ معقولٌ فى ضوء أن الدعوة للتبرع لم تأتِ من السلطة.
ثم جاءت المبادرة الأخيرة من الرئيس عبدالفتاح السيسى.. والحقيقة أنه دعا إليها قبل أن يُصبح رئيساً.. وكانت الفكرة واضحةً وبسيطةً.. الوضع العام فى مصر (وليس الاقتصاد فقط) بالغ السوء.. ولتحقيق قفزةٍ طموحة فى جميع المجالات فإن مصر فى حاجةٍ إلى تمويلٍ كبير.. جزءٌ من هذا التمويل من الأشقاء العرب.. وجزءٌ بحزمةٍ من الإجراءات التقشفية.. وبقى جزءٌ فى حدود مائة مليار جنيه، استنهض الرجل همم المصريين لتمويله.
كانت البداية صحيحةً إذ بدأ الرجل بنفسه وأعلن عن تبرعه بنصف راتبه (أى نحو ربع مليون جنيه سنوياً) ونصف ثروته التى لم يُحدد قيمتها (وإن كنا سنعلمها حتماً فهذا إلزامٌ دستورى).. ثم ذهب بنفسه وأودع مبلغاً فى بنكٍ حكومى (وليس بنكاً خاصاً أو أجنبياً كما فعل غيره).. قبل مرور 48 ساعة على هذه البداية الصحيحة، كان معظم الوزراء والمحافظين (يُعلنون) عن تبرعهم بنصف رواتبهم للصندوق.. إلى هنا لا ضرر، فالتبرع من مالهم الخاص، ولكن طريقة إعلان البعض عن تبرعهم كان لها مردودٌ سلبى عند بعض المصريين.
ثم بدأت بعض الجهات الحكومية (جامعات/ شركات/ بنوك/ ..) تتبرع من ميزانياتها.. وهو أمرٌ لا قيمة له.. فهو ليس تبرعاً وإنما من الخزانة العامة وإليها.. وفضلاً عن أنه لا يُكلّف المسؤولين مليماً، فإنه يزيد من حجم المردود السلبى لهذه التصرفات.
ثم وصلنا فى الأيام الأخيرة إلى التطور الطبيعى والكارثى لما سبق، حيث تسابق بعض المسؤولين لإجبار مرؤسيهم على التبرع الجماعى للصندوق، فقرأنا عن تبرع العاملين بهيئة السكك الحديدية والمترو بأجر يومٍ، وتبرع العاملين بالهيئة العربية للتصنيع بنسبة من الأساسى، وغير ذلك من التصرفات التى تقضى على نُبل الفكرة تماماً وتكاد تدخل فى باب المؤامرة على الفكرة وصاحبها.
أساس التبرع هو الاختيار لا الجبر.. أعرف كثيرين ممن تبرعوا للصندوق سراً بشخوصهم (رغم صفاتهم الرسمية).. وآخرين ممن تبرعوا فى العلن ليقتدى بهم الآخرون.. ولم يرغمهم أحدٌ ولم يُرغموا أحداً.. وبأمثالهم تحلّ البركة.
هذا عن المسؤولين.. أما عن رجال الأعمال فهم كأى فئةٍ فى المجتمع، منهم الشرفاء ومنهم غير ذلك.. لكننى لا أتفق بالمرة مع طريقة تعامل البعض معهم فيما يخص التبرع للصندوق.. الطريقة بدا فيها نوعٌ من الإجبار أو سيف الحياء مع البعض وهو ما يتناقض مع (طِيب النفس) الذى اشترطه الحديث الشريف.. ولعل بعضهم كان يُفضّل التبرع سراً وأحرجه الإعلام.. بل إن بعض وسائل الإعلام بدأت حملات تجريس لمن لم يتبرعوا.. قد يكون بعضهم يستحق التجريس فعلاً، ولكن لأسبابٍ أخرى غير عدم التبرع.. أعرف أن كثيرين سيردّون بأن من رجال الأعمال من راكموا ثرواتهم من مال الشعب، ومن ثمّ فتبرُعهم واجبٌ.. ورأيى أن هذا منطقٌ فاسدٌ.. فالدولة لا تأخذ حقوقها لدى الناس بالتبرع وإنما بالقانون.. والتبرع يكون بلا مقابل (عن طِيب نفس) وليس بمقابل تنازل الدولة عن حقوقها.
رجاء عدم الاستعجال لكى لا يلحق هذا الصندوق بسابقيه.. ليس من الضرورى امتلاء الصندوق بالمائة مليار جنيه قبل البداية.. ابدأوا بالمُتاح ولو كان قليلاً، للبدء فى مشروعاتٍ محددةٍ.. عندها سينمو الصندوق وسيكبر إذا لمس المصريون كفاءة الإدارة وشاهدوا أثراً لتبرعاتهم على مشروعاتٍ بعينها.. لن يتوقف عطاء المصريين أبداً طالما عن (طِيب نفس).. هذه كلمة السر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة