قبل سنوات قدم لنا الكاتب والمبدع عمار على حسن دراسته الفكرية العميقة «الصوفية والسياسة فى مصر»، التى تحلل الدور الذى تلعبه الطرق الصوفية فى تشكيل الثقافة السياسية المصرية، ومنذ أيام قدم «عمار» إلى القراء روايته الجديدة «السلفى»، وسيسأل سائل: «ما هى العلاقة بين الاثنين؟».
اهتمت دراسة «الصوفية والسياسة فى مصر» - كما قلنا - بتحليل الدور الذى تلعبه الطرق الصوفية فى تشكيل الثقافة السياسية المصرية، وتهتم الرواية بتقديم عالم التدين بصورته المعتدلة، والأخرى المتطرفة، المعتدلة التى عاش فيها الأب وتربى فى ظلها، والمتطرفة التى سرقت ابنه إلى الأفكار السلفية الجهادية لتقوده إلى الانضمام لقوافل المجاهدين، الذين سافروا إلى أفغانستان لمقاومة الاحتلال الروسى، وبعدها ينضم إلى أفغانستان، فى كتابه «الصوفية والسياسة» يمسك «عمار» بمشرط الأكاديمى، وفى رواية «السلفى» يمسك «عمار» بريشة المبدع، وبين الاثنين تطل علينا شخصيات صوفية، وتبدو هذه الشخصيات فى «الدراسة» كنماذج تطبيقية أو استدلالية، أما فى «الرواية» فتتجسد فى شيخة صوفية تعيش فى القرية كانت هى بمثابة مفتاح الدخول إلى العالم الذى يمكن منه استعادة هذا السلفى الجهادى إلى عالم التدين الطبيعى.
فى الرواية نجد معاناة أب يعمل محاميا ويؤمن بأفكار عصرية، لكن تبقى مأساته فى ابنه الذى تسلل إليه السلفيون الجهاديون، فسرقوا عقله وجندوه وأخذوه معهم فى حرب أفغانستان ضد الاحتلال الروسى منذ نهاية السبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضى، وبعد انتهاء الحرب وخروج الروس انضم الابن إلى تنظيم القاعدة كما فعل معظم الذين خاضوا تجربة الجهاد فى أفغانستان.
حولت حالة الابن حياة الأب إلى جحيم نفسى هائل: «عرفت كيف أعيش لوعة غيابك عنى، وأنا أتابع الأخبار التى تأتى من الكهوف البعيدة، وأتساءل: كيف يكون ابنى أنا من بين هؤلاء الذين تطلبهم القوة العاتية فى العالم بأسره، ويقول عنهم أغلبية الناس على سطح الأرض إنهم إرهابيون».
جرب كل الوسائل عبر كل الطرق المعروفة كى يستعيد ولده، كان يحلم بعودة الابن إلى حيث كان، عصريا فى أفكاره وحياته، لكن كل السبل لم تنفع، فأصيب بالفصام، وبينما هو على هذه الحال تذكر الشيخة الصوفية زينب، كان الكل فى قريته يعتقد فى كراماتها: «لم تكن لديها لمبة جاز مثل تلك التى كانت معلقة على جدران البيوت، وكان الناس يقولون إن جوف الصهريج ينيره شعاع يأتى من جنباته ولا يعرف أحد كيف لا ينطفئ برحيل الشمس، وشكك بعضهم وقالوا إنه انعكاس ضوء القمر على حديد السلم العالى، لكنهم رأوا النور فى ليال غاب فيها القمر، وملأت السحب الداكنة بطن السماء».
تذكر الأب «الشيخة زينب» ونبوءتها أنه لن يستعيد الغائب روحا أو جسدا، إلا إذا مر بكل عتبات بيوت القرية وعددها 21 عتبة، وبصحبته ولده، ليشرح له منابع التدين المعتدل الذى تعلمه الأب فى الصغر، ولا يزال يؤمن به.
يبدأ الأب رحلة الطواف عبر البيوت، يستعيد كل مسرات أصحابها وأوجاعهم، سواء من بقى منهم على قيد الحياة أو من رحل تاركا وراءه حكايات صغيرة تتناسل بلا هوادة.