«يُعترف بفضل الرجل الذى يتخذ العدالة نبراسًا له، فينهج نهجها».
هذا ما قاله الوزير الأكبر «بتاح حتب» فى القرن السابع والعشرين قبل الميلاد - أى منذ 4700 عام - كما جاء فى الكتاب الرائع «فجر الضمير» الذى ألفه المؤرخ وعالم المصريات الأمريكى جيمس هنرى بريستد وترجمه الدكتور سليم حسن وأصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب فى 2011.
يرصد بريستد بدأب كيف استطاع المصريون القدماء تشييد منظومة أخلاقية شاملة تتكئ على فكرة العدالة، وكان يرمز لها بالإله «ماعت».. هذه المنظومة الأخلاقية تعلن بوضوح مخاصمتها للظلم، وانحيازها المطلق للاستقامة، فكما قال فرعون أهناسيا لابنه الأمير «ميركارع»: «إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور الرجل الظالم - أى من قربان الرجل الظالم».
لقد استطاع المصرى القديم كما شرح بريستد أن يؤسس دولة كبرى من حيث قدرتها على مراعاة حقوق الإنسان بتعبيرات العصر الحديث، كما أن هذا المصرى تمتع بنعمة التأمل فى الحياة والكون، الأمر الذى جعله أول إنسان على الكرة الأرضية ينشغل كثيرًا بقضايا فكرية وفلسفية عميقة أوصلته فى النهاية إلى الاقتناع بضرورة وجود حياة أخرى بعد الموت - قبل ظهور الديانات السماوية بآلاف السنين - ليقف الناس أمام إله الشمس «رع» ينتظرون المحاكمة النهائية عن أفعالهم - يقصد الآخرة والحساب - لينال العادل والمستقيم مكافأته فى الإقامة فى المملكة السماوية بجوار «رع»، ويلقى الظالم والمنحرف عقابه فى الحياة الأرضية السفلية، حيث الإله «أوزير» إله الموتى!
أنت تعرف أن الأفكار الكبرى لا تولد مكتملة، بل تظل تنمو وتتطور حتى تصلنا فى صياغة نهائية هى التى نؤمن بها وندافع عنها، وهكذا كان المصرى القديم يعتقد أن الحاكم/ الملك/ الفرعون فقط هو من سيحاسب بعد الموت على أفعاله، ومع الوقت تطورت هذه الفكرة حتى أصبح الشعب كله مطالبًا بالوقوف أمام المحاكمة النهائية فى السماء كما يقول «بريستد». لقد قرأت كتاب «فجر الضمير» فى مطلع الثمانينيات وهأنا أعود إليه الآن لأكتشف عظمة بلدنا التى نهينها بانتظام!
آه.. لو اطلع كل المصريين على كتاب «فجر الضمير»!