خرج ذلك الذِّكر الرمضانى الجميل من فمه الغاضب الذى يتطاير لعاب العصبية منه كأبعد ما يكون عن لهجة الأذكار وطريقتها التى يفترض أن تحمل السكينة والخشوع، لو أن أحدا مرَّ من بعيد فسمع صوته الشبيه بالزئير فلم يتبين فحوى الكلمات لظن أنها تحوى سُبابا فاحشا وليست ذكرا مسنونا فى نهار الشهر الكريم، بأقولك إيه.. أنا صايم وعفاريت الدنيا بتتنطط فى وشى. ما تخلينيش أفطر عليك. يمكنك عزيزى القارئ أن تتصور مزيدا من العبارات التى تناسب المشهد الغاضب الذى نراه يوميا ونسمع مفردات الصيام وأذكاره تحشر بين كلماته الساخطة حشرا، ورغم ما يحويه بعضها من ألفاظ شرعية كريمة كالدعاء والصيام والفطر إلا أنها كثيرا ما تخرج مقترنة بما يناقض معانيها ومقاصدها تماما، ما العلاقة بين الغضب وانفلات الأعصاب وبين الصيام؟ ما العلاقة بين رمضان وبين العصبية وقلة أو انعدام التحمل؟ بدلا من التخلق بالحلم والأناة والصبر على الأذى ومقابلة الإساءة بالحسنى نجد اتخاذ الصوم ذريعة للعصبية والجهل على الناس وضيق الأفق أثناء معاملاتهم. والسبب ببساطة هو سوء فهم رهيب طرأ على المسلمين مؤخرا وبشكل عجيب يثير الأسى.
إن اجتماع الصيام والقرآن على القلب فى رمضان يفترض أن ينشئ حالة عميقة من التأثير التغييرى يندر أن تجد متعرضا صادقا لها إلا ويتغير بها حين تعرض آيات القرآن على القلب وهو فى حالة تراجع لمنسوب الشهوات تؤهله للتأثر والتفاعل مع كلام الله ومدارسته، وتلك هى الفرصة الكبرى للتغيير ولاكتساب التقوى التى هى علة فرض الصيام «لعلكم تتقون»، وهى فرصة أيضا للتغيير السلوكى وتعويد النفس على صالح الأخلاق التى بعث النبى صلى الله عليه وسلم ليتممها فهو مدرسة للصبر والجلد وتحمل المشاق وهو محضن أخلاقى يكسب المسلم الواعى الذى يدرك خطورته قدرة على حسن الرد ومقابلة الإساءة بالحسنى وهو فرصة ليذر الإنسان ما تساهل فيه من قبل من قول زور أو عمل به.
وأحاديث الأخلاق فى رمضان بالذات تحمل طابعا تنبيهيا خاصا يختلف عما جرت به العادة فى باقى ما ورد من أحاديث فى شأن رمضان ويتبين المرء خطورة المران الأخلاقى فى رمضان ومدى التلازم بينه وبين قبول الطاعة فى هذا الشهر من خلال التحذير من الرفث والفسوق حال الصوم حتى وإن شاتمك أحد أو أساء إليك فتقول إنى امرؤ صائم، أيضا فى بيان أن من لم يدع قول الزور أو العمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه. وختاما بإشارة رهيبة إلى صائم وقائم ليس لهما من صيامهما وقيامهما إلا الجوع والعطش والسهر والنصب، وأصل ذلك كله هو التركيز المطلق على الشكل الخارجى للتعبد دون تحقيق المقصد الأسمى وهو تمام التغيير فضلا عمن ينشغل أصلا بالملهيات وبواعث الغفلات، وبدلا من التخلق بالحلم والأناة والصبر على الأذى ومقابلة الإساءة بالحسنى نجد اتخاذ الصوم ذريعة للعصبية والجهل على الناس وضيق الأفق أثناء معاملاتهم وبدلا من إحياء ليل رمضان بالقيام والذكر والاستغفار تجد الانشغال باللهو وتضييع الأوقات فيما لا يفيد إن لم يكن يضر وبدلا من أن يكون رمضان فرصة للزهد وللتخفف من أحمال الدنيا وزخرف شهواتها تجد المبالغة فى الترف والسرف الذى يزيد المرء تثاقلا وتباطؤا عن الطاعات والقربات التى تحتاج إلى مثل هذا التخفف المأسوف عليه. وهكذا ينقلب الحال فى رمضان ويفقد قيمته الحقيقية وتزول قدرته التغييرية بعد إفراغه من مواطن تأثيره، وحتى إن بدا على ظاهره التمسك بشعائر رمضان فإنه قد افتقد حقيقته ومقصده الأسمى وصار مجرد مشهد خاوٍ تتكرر فيه العبارة دون إدراك لعميق مدلولاتها ومسؤولياتها عبارة.. اللهم إنى صائم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة